صدور كتاب جديد بعنوان “أنثروبولوجيا المغرب الواحي: قضايا وتأويلات”

صدر مؤخرا عن دار مقاربات للنشر بفاس، كتاب جديد يحمل عنوان “أنثروبولوجيا المغرب الواحي: قضايا وتأويلات”، وهو كتاب جماعي محكم، شارك فيها باحثون في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والجغرافيا والدراسات الثقافية من مختلف الجامعات المغربية، وقد جاء في 200 صفحة من القطع الكبير، وضم دراسات ميدانية توزعت على عدد من الواحات المغربية، والتي تمثل بحق نموذجا فريدا لدراسة التداخل بين العوامل البيئية والاجتماعية. فأنظمة الري التقليدية مثل “الخطارات”، ليست مجرد تقنيات هندسية، بل هي نتاج عقد اجتماعي يَحكُم توزيع الموارد المائية ويُرسي قواعد التعاون والصراع داخل المجتمع. ليست هذه الواحات مجرد مناظر طبيعية خلابة، بل هي عوالم معقدة نسجتها الأيادي البشرية عبر آلاف السنين، حاملةً في ثناياها أسرار تعايشٍ فريد مع البيئة القاسية، وحافظَةً لتراث ثقافيٍ يمتد جذوره إلى حقب تاريخية متعاقبة.
يعد هذا الكتاب رقم 36 ضمن إصدارات مركز ابن خلدون لدراسات الهجرة والمواطنة التابع لجامعة الأخوين إفران، والذي نسق أعماله كل من عبد الكريم مرزوق وعبد الرحيم العطري وجمال فزة وحنان بوكطاية وهشام كموني، امتدادا لمشروع فكري نوعي، يراهن على النهوض بالأعمال المنتمية إلى حقول العلوم الاجتماعية. وبذلك يأتي هذا الكتاب لِيسلِّط الضوء على الواحات المغربية من منظور أنثروبولوجي شمولي، يستكشف التفاعل الإنساني مع هذه النظم الإيكولوجية الهشة، ويكشف عن النسيج الاجتماعي والثقافي الذي يجعل من كل واحة كونًا مصغرا تلتقي فيه الإبداعات البشرية بتحديات الجغرافيا والمناخ. فمن قرى تافيلالت العتيقة إلى واحات درعة ونخيل فكيك وواحات الأطلس الصغير، تتحول كل نقطة ماء إلى مسرحٍ لسرديات إنسانية عن البقاء، والتكيف، والهوية.
ينقسم هذا العمل إلى فصول تتنقل بين التحليل الأنثروبولوجي والسرد الحكائي، مدعوما بدراسات ميدانية وبصور توثيقية. من الزراعة إلى العمارة الطينية، ومن التراتبية الاجتماعية إلى الاقتصاد الموازي، يسعى الكتاب إلى تقديم بانوراما متكاملة لواحات المغرب، ليس كفضاءات متحفية، بل ككائنات حية تصارع من أجل البقاء في عالم متغير. ولهذا يسعى العمل إلى قراءة الروايات الشفوية والطقوس الدينية والرموز المحلية ليكشف كيف تُعبِّر هذه الممارسات عن هوياتٍ مركبة، وتجسّد حوارا بين الماضي والحاضر. فـ”طقوس العبور” و”أعراف التنظيم الاجتماعي للماء” ليست مجرد مناسبات وتقعيدات اجتماعية وحسب، بل شفرات لفهم الرؤية الكونية لأهل الواحات.
أخيرا يمكن القول بأن الواحات المغربية ليست بقايا ماض، بل مختبرات لإبداع مستقبلي. في تعاملها مع الماء، والسلطة، والذاكرة، تقدم دروسا للعالم حول الاستدامة والتضامن. هذا الكتاب يدعو القارئ إلى استبدال نظرة الشفقة بنظرة الاحترام، فما يحدث في واحات درعة أو تافيلالت ليس مجرد “تراث يحفظ”، بل حكاية إنسانية مستمرة. ففي زمن السرديات الأحادية والصور النمطية، تكون الأنثروبولوجيا فعلا مقاوما يعيد الاعتبار للتعقيد الإنساني. هذا الكتاب دعوة إلى قراءة المغرب بعينٍ ثالثةٍ، عينٍ لا ترى في الأمازيغية مجرد لغةٍ تُدرَّس في المدارس، ولا في الصحراء مجرد أرقامٍ جيوسياسية، بل ترى في التنوع ثروةً تُبنى عليها المواطنة. فالأنثروبولوجيا هنا ليست ترفا فكريا، بل ضرورةٌ لتذكير الدولة بأن ساكنة الهامش هم شركاء لا عبء. إنها، في النهاية، محاولةٌ لِنَقْدِ ذواتنا قبل نقد الآخرين، ولِفَهْمِ الشفرة الثقافية لمغربنا الواحي.

Top