مثقفون يستحضرون شخصية رجل الثقافة ومؤسس المعرض الدولي للكتاب بالمغرب

في لقاء جمع مثقفين وأدباء ووجوه من عوالم مختلفة، من السياسة والثقافة والفكر والأدب، استحضر الجمع الراحل محمد بنعيسى الذي توفي نهاية فبراير الماضي بعد تاريخ حافل بالعطاء السياسي والثقافي والأدبي.

وضمن فقرة في الذاكرة، ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، عاد المتدخلون في اللقاء الذي اختير له شعار “بصمات في تجاه الخلد”، إلى الإرث الثقافي والغني للراحل بنعيسى، وما حققه من إنجازات على مستويات مختلفة ما تزال إلى اليوم حاضرة وملموسة في المشهد الوطني العام.

بصمة قوية في الثقافة والدبلوماسية والعمل الجمعوي

قال محمد المهدي بنسعيد، وزير الشباب والثقافة والتواصل، في كلمة ألقاها نيابة عنه صلاح الدين عبقري، إن محمد بن عيسى كان رجلا فريدا، نادر المثال، جمع بين الخصال الإنسانية الرفيعة وكفاءة عالية في كل المناصب التي تقلدها، وترك بصمة قوية في الثقافة والدبلوماسية والعمل الجمعوي.

وأضاف بنسعيد أن الفقيد كان حاضرا بقوة في المشهد الثقافي المغربي والدولي، سواء عبر تجربته الإعلامية في منظمات دولية، أو من خلال تقلده لحقيبة الثقافة وسفارة المغرب بواشنطن، وصولًا إلى مهامه كوزير للخارجية، حيث أبان عن حنكة سياسية نادرة في لحظة دولية معقدة.

وأكد الوزير، في اللقاء الذي سيره الكاتب والشاعر مبارك ربيع، أن بنعيسى ظل وفيا لمدينته أصيلة، التي نقلها من سكون البلدة الصغيرة إلى فضاء عالمي منفتح، من خلال موسمها الثقافي الدولي الذي تحول إلى منصة تجمع شخصيات مرموقة من مختلف بقاع العالم، لمقاربة التحديات الكبرى التي تواجه الإنسانية.

واعتبر أن هذه “المفارقة الجميلة”، أن تصبح مدينة بحجم أصيلة منبرا عالميا للفكر والثقافة، ما كانت لتتحقق لولا شخصية محمد بنعيسى. مشيرا إلى أن الفقيد جسد المعنى الحقيقي للعمل الجمعوي المنتج، من خلال مشاريع ثقافية ملموسة ما تزال شاهدة على جهده، كان آخرها المعهد البحريني للموسيقى الشرقية، الذي حصل على موافقة الوزارة بتنسيق دائم معه، قبل أسابيع فقط من رحيله.

وشدد الوزير، في كلمته، على أن هذا التكريم للراحل ليس ردا للجميل، لأنه “أكبر من أن يُرَد”، بل هو وفاء لما قدمه، وتكريس لقيم القدوة والعمل والإخلاص، داعيًا إلى مواصلة جهوده في جعل الثقافة في قلب النموذج التنموي الوطني، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس.

محمد الأشعري: “الكتاب” وصية الراحل وعلينا أن نجعله في بؤرة الاهتمام الوطني

من جانبه، عاد محمد الأشعري وزير الثقافة السابق والمثقف والأديب إلى مسار الراحل بن عيسى الذي قال إنه يمثل مسارا استثنائيا وفريدا وبصم على منجزات هامة في مختلف المسؤوليات التي تقلدها، وعلى رأسها وزارة الثقافة.

وأضاف الأشعري أن الراحل بن عيسى حين كان وزيرا للثقافة أسهم في عدد من المنجزات التي ما تزال حاضرة وتعطي ثمارها، وفي مقدمتها المعرض الدولي للنشر والكتاب نفسه، الذي أسس له بالمغرب في سياق صعب على كافة المستويات.

وأوضح الأشعري أن الراحل خاض مغامرة تنظيم أول نسخة لمعرض الكتاب نهاية الثمانيات في الوقت الذي كان فيه رصيد المغرب على مستوى إنجاز الروايات لا يتجاوز 10 في السنة، ونفس الأمر بالنسبة للكتب الخاصة بالعلوم الإنسانية، وفي ظل عدم وجود صناعة للكتاب ولا حتى شركة واحدة للتوزيع، وضعف شبكة الكتبيين.

ويرى الأشعري أن مغامرة الراحل التي أبانت عن ثمارها من خلال استمرار فعاليات المعرض للدورة الحالية وهي الدورة الـ 30، تبين أن الراحل لا يفكر في الماضي بقدر ما يفكر بشكل استباقي، حيث قال في هذا الصدد إن “بنعيسى لن تجده يخبر بما فعل بل بما سيفعل”، في إشارة إلى تطلعه إلى المستقبل.

وشدد وزير الثقافة السابق والروائي على ضرورة الاحتفاظ بوصية “السي بن عيسى” وهي الكتاب، مؤكدا على أنه كان متعلقا بالثقافة وبالكتاب وكان يوصي بهما، داعيا في هذا الصدد إلى جعل الكتاب في بؤرة الاهتمام الوطني، وأن يتحد الجميع ليكون الكتاب حاضرا في الأسرة والمدرسة والشارع وفي جميع مناحي الحياة العامة من أجل استكمال طريق الجمال والأفكار.

إلى ذلك، خلص الأشعري إلى ضرورة الاقتداء بالراحل بن عيسى في إبراز الثقافة، مستشهدا على ما حققه الراحل في مدينته الصغيرة أصيلة التي حولها إلى منتدى فكر وثقافة ليست على المستوى المحلي فقط وغنما ذات إشعاع وطني ودولي، قبل أن يدعو إلى مبادرة تأسيس متحف يحمل اسم محمد بن عيسى بمدينة أصيلة ليجمع أعمال الراحل وإرثه الغني في المجال الثقافي والفكري.

أحمد المديني يرثي محمد بنعيسى

من جانبه، أرثى الكاتب والشاعر أحمد مديني الراحل محمد بن عيسى بقصيدة يعدد فيها أدوار الراحل على مستويات مختلفة، وأساسا منها الثقافة ومشروعه الثقافي الذي بصم عليه الراحل خلال تحمله لحقيبة وزارة الثقافة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات.

وذكر المديني بالدعم الذي كان يقدمه الراحل بن عيسى للثقافة والمثقفين، منذ أن كان وزيرا للثقافة، حيث كان داعما لعدد من المشاريع ومتابعا لها، وفي خدمة الأدباء والمثقفين، بالرغم من الصعوبات التي كانت حينها.

كما توقف المديني بدوره عند منتدى مهرجان أصيلة الذي شكل قبلة للمفكرين والأدباء والسياسيين وفاعلين في مختلف المجالات، من المستوى المحلي والوطني والدولي، معتبرا أنه نموذج لمشروع ثقافي فريد يعكس رؤية الراحل محمد بن عيسى.

حاتم البطيوي: شخصية متعددة الأبعاد والإنسان الذي تلمس إنسانيته منذ اللقاء الأول

بدوره، قال حاتم البطيوي، الكاتب والصحفي، الذي خلف الراحل في رئاسة مؤسسة منتدى أصيلة إن الراحل محمد بن عيسى كان بالنسبة له، ولرفاقه في جمعية المحيط، ثم في مؤسسة منتدى أصيلة، شخصية متعددة الأبعاد؛ جمع بين المثقف، والسياسي، والدبلوماسي، والفنان، والمربي، وقبل كل شيء، الإنسان الذي تلمس إنسانيته منذ اللقاء الأول.

وأضاف البطيوي أن أول درس تلقاه من بن عيسى كان وهو لا يزال طفلًا، حينما رآه يلتقط ورقة رماها على الأرض دون أن ينطق بكلمة، في مشهد قال إنه غيّر علاقته بالنظافة والفضاء العام إلى الأبد. مشيرًا إلى أن هذا السلوك البسيط يعكس البعد التربوي والإنساني العميق في شخصية الفقيد.

وأكد البطيوي أن بن عيسى، طيلة أكثر من 45 سنة من العمل في أصيلة، لم يكن يبني مهرجانًا فقط، بل كان يؤسس لبيئة تُعلي من قيمة الإنسان وتُشجع الإبداع، مستحضرا مقولته الشهيرة: “إذا كانت بيئة الطفل سليمة، فإن عقله سيكون سليما لا محالة”.

وأشار إلى أن مشروع أصيلة لم يكن سهلا، وأنه عايش عن قرب التحديات التي واجهها بن عيسى، لكنه تغلب عليها بالصبر والتسامح والانفتاح، مع دعم كبير من جلالة الملك الراحل الحسن الثاني، واستمرار هذا الدعم في عهد الملك محمد السادس، الذي زار أصيلة في أول دورة للموسم الثقافي سنة 1978.

وتوقف البطيوي عند الموقف الإنساني الذي رواه له الوزير السابق عبد السلام بركة، حين بادر بن عيسى، بدافع إنساني خالص، إلى دعوته لعشاء جمعه مع أعضاء الحكومة لتلطيف الأجواء وفتح باب التواصل، رغم أنه كان حينها وزيرا شابًا لا يستقبل بنفس الحفاوة.

وفي ختام شهادته، قال بطيوي إن السي محمد بن عيسى ظل حتى أيامه الأخيرة يلهج باسم “أصيلة”، ويترك وصاياه بشأنها، مؤكدا أن مسؤولية استمرار مشروعه الحضاري والثقافي اليوم، مسؤولية جماعية تتطلب التفافا ودعما خاصا من وزارة الثقافة، حفاظا على روح المدينة وإشعاعها.

محمد توفيق أمزيان

تصوير: رضوان موسى

Top