تتواصل بفيلا الفنون بالعاصمة المغربية الرباط، فعاليات المعرض الاستعادي للفنان المغربي المخضرم بوشعيب هبولي، الذي تنظمه مؤسسة المدى إلى غاية الخامس عشر من يناير 2021.
وتغوص الأعمال المعروضة في الحياة الفنية لهبولي، وتبرز الإبداعات التصويرية لهذا الفنان العصامي، التي تم إعدادها بدقة باستخدام تقنية مزدوجة على الورق أو على ورق مقوى أو الحبر على الورق.
قال بوشعيب هبولي بخصوص اختيار الورق المقوى والورق في أعماله الفنية الجديدة، إن هاتين المادتين منخفضتا التكلفة ويمكن استبدالهما بسهولة مقارنة بالقماش، ما يجعل مهمته أسهل أثناء الإنجازات التصويرية.
وأكّد الفنان المغربي المولود بمدينة آزمور أن المعرض يرسم مسار رحلته الفنية من السبعينات إلى اليوم، وهو مسار يهتم ببيئته ويتميّز بفترات شخصية تتأرجح حسب اللحظات والأوضاع.
ويرى الفنان أن “اللون يشوّه العمل، ويمكن أن يكون ضبابيا دون أن يكون حيويا على الإطلاق”. لذلك آثر استخدام الحبر في أعماله، إذ يغمس ريشته “في لون قد يكون أكثر من الأسود”.
وتعد تجربة بوشعيب هبولي (من مواليد سنة 1945) من التجارب المؤسسة للأفق التشكيلي بالمغرب منذ منعرجاته الأولى، إذ ينطلق هذا الفنان من خلفية تشكيلية أثارت ولا تزال العديد من الأسئلة والملاحظات، وهو الذي شقّ طريقه عبر ذاتية خالصة، معتمدا على أسلوب التكرار، أي تكرار الموضوعات نفسها والخطوط نفسها والألوان ذاتها.
ولهبولي رؤية خاصة للفنان التشكيلي، فهو عنده ليس ذاك الساعي إلى إنتاج كم هائل من اللوحات أو المعارض، بل هو الفنان الذي يحمل هما ويعمل على إخراجه من المخزون الداخلي للروح ليتحوّل إلى لوحة تحمل فكرا وقيمة إنسانية وحضارية تحاكي الزمن الذي ولدت فيه، وهو القائل في أحد حواراته الصحافية حول المدة التي يستغرقها في إنجاز أعماله “يستغرق إنجاز أي لوحة عندي ما يزيد عن الأربعة أشهر، لتكون جاهزة للعرض”.
وعن ذلك يقول الفنان التشكيلي المغربي محمد العروصي “كل ما يمكنني قوله بكل اختصار حول الفنان هبولي إنه مبدع ومتميز، ينتقي أعماله بدقة وعناية فائقة عبر برنامج صارم من العمل والبحث والتجريب اليومي، وهو نموذج مشرف وراق للفنان التشكيلي لما راكمه من ثقافة بكل صنوفها والتي أغنت خبرته وتجربته، فهو مثال للإنسان والفنان الملتزم، الذي استطاع أن يقدّم صورة حقيقية ومشرفة للفنان المغربي الذي كرّس اهتمامه وحياته للفن التشكيلي”.
وتنفرد تجربة الرسام المغربي المخضرم منذ معرضه الفردي الأول الذي أقامه في العام 1970، بانتهاجه دفقا خاصا لألوانه التي يستلهمها من مرسمه المفتوح على الطبيعة في مدينة آزمور، فهناك الطين من جهة وتدرجاته اللونية وهناك مسحوق قشرة الجوز، وما تمنح من إمكانات لونية لا توفّرها الصباغة الحديثة.
ومن عزلته بآزمور، حيث محضن ذاكرته ومرسمه، يهندس الهبولي العزلة والظلال والألوان الداكنة، محاولا القبض على الأمكنة وعلى أزمنتها النفسية داخله.
ويتميّز هبولي بسخرية أليفة من هجوم الأشياء على العالم وعلى حياة الناس وبالأخص حياة المغاربة التي كانت إلى زمن قريب وديعة وأليفة، لكنها الآن غطست في ألوان من البهرجة ومن الافتعال، وناطحت الموضة حتى أصبحت دون مذاق.
يسخر الفنان العصامي في كل معارضه تقريبا من الكائن المغربي الجديد المعلّب في رقع العولمة، وسط بيئة معمارية لا علاقة لها بالتاريخ المغربي ولا بالهوية المحلية، حيث البنايات الجديدة غطّت على معمارية المدينة العتيقة والبيت المغربي، والشقق الحديثة المنمطة على الشكل الهندسي الأوروبي أضاعت الكثير من الدعة التي كانت.
وهو بذلك لا يكفّ عن إنتاج سخريته اليومية من هذه المظاهر المستجدة في حياة المغاربة، قائلا “إن المدينة المغربية إذا سارت في هذا الاتجاه، فإن النتيجة على المخيال وعلى الذاكرة الجمعية ستكون كارثية”.
ولأن بوشعيب هبولي متمرّد على القواعد الجمالية الصارمة ومحاملها التقليدية الثابتة، فقد تعامل في بداية تجربته الصباغية مع القماشة كمحمول فني، ليختار في ما بعد أن يغوص في مصدر آخر، ألا وهو الورق، الذي انسجم كليا مع تقنيته.
وهو يعمل بطريقة مختلفة للوصول إلى جوهر وجوهه الرمادية وكائناته الفنية، خاصة أن له كامل الفرادة في اختيار مواضيعه تماما كما محامله، التي هي بالطبع الورق في أحجامه الصغيرة التي يؤثرها بلون واحد.
يرى نقاد الفن أن هناك توجها رائعا وجميلا في الصباغة المغربية الحالية نحو اعتماد اللونين الأسود والأبيض، من خلال تقسيمهما أو بروز اللون الرمادي في بعض الحالات بطرق خاصة وتقنية تشكيلية احترافية. لكن بالنسبة لهبولي فالرمادي لون يفرض ذاته وخصوصيته، ولإبراز هذه الخصوصية وهذه الذاتية، يشحنه ببعض الأسود والأزرق والأخضر.
وفي السنوات الأخيرة، بدأ هبولي يستعمل زيت المحركات المستهلك، ينظّفه من الشوائب ويسكبه على الورق، من أجل الحصول على تدرجات الرمادي الغني بالضوء، بل استعمل في هذه التجربة، أيضا، نوعا من القماش الشفّاف.
ويؤكّد النقاد أن هبولي الموسوم بـ”رسام اللون الرمادي”، تخصّص في توظيف هذا اللون في لوحاته الصغيرة الحجم بهدف خلق التميّز في الساحة التشكيلية المغربية، وإبداع هذه الوجوه التي رسمت بتقنية مختلفة عن كل أشكال الإبداع الأخرى، معتمدا على الورق والحبر الصيني باعتبارهما مادتين تدخلان في تجربته الصباغية، منتجا رسومات لوجوه رمادية بعيدة عن الواقع وقريبة من الخيال، وكأنه يكشف من حيث لا يدري، أو ربما وهو يدري، أن ما يقدّمه هو ثورة ضد البؤس وضد العدم.
ولأجل ذلك كله، قال عنه صديقه الفنان عبدالكريم الأزهر “بوشعيب هبولي إنسان هادئ، حيوي، محاورته متعة، يعتنق البساطة في حياته اليومية، يركّز على المواد والتقنيات البسيطة، شعاره لا للأسلوب، متمرّد في علاقاته وسلوكاته، جاد، جريء في حديثه ومواقفه، وهو ما يميّزه عن فناني جيله رغم عصاميته”.
وولد بوشعيب هبولي في العام 1945 بآزمور، حيث يعيش ويعمل، وهو الفنان العصامي الذي دفعته ميوله للرسم واللون بعد استقلال المغرب في العام 1956، إلى متابعة تكوين في التنشيط التشكيلي كانت تُتيحه وزارة الشباب والرياضة المغربية، في ذلك الوقت.
وكان الفنان بين سنة 1957 و1963 يؤطّر ورشات بالرباط، كما يؤطّر أيضا الأطفال الذين كانوا منخرطين بصفة منتظمة في أنشطة دار الشباب بمدينته آزمور، ومع ذلك لم يمنعه نشاطه من متابعة تكوينات أساسية في الفن التشكيلي، مكرّسا نفسه للتعليم دون أن يتوقّف يوما عن النهل من البحث التشكيلي العميق.
فعاليات المعرض الاستعادي تتواصل بالرباط
الوسوم