أثارت أفكار فيلم Leave the World Behind (اترك العالم خلفك)، الذي طرحته المنصة الرقمية نتفليكس (Netflix) للعرض، بداية شهر دجنبر الماضي 2023، الجدل بين جمهور المتلقين، نظرا للصورة السوداوية والقاتمة التي قدمها، حول تعرض أنظمة الأنترنيت بالولايات المتحدة الأمريكية لاختراق مجهول المصدر، يحتمل أن يكون صينيا، كويا أو إيرانيا.. ليجد المواطن الأمريكي نفسه، أمام هذا الهجوم السيبراني، محروما من التواصل مع العالم الخارجي.
ليس هذا الفيلم الأول، الذي يتحدث عن نهاية العالم، وانقطاع الإنترنيت، وشن الحرب على بلاد العم سام، حيث اعتاد السنيفيليون على مشاهدة أفلام من هذا الصنيع، خصوصا أثناء نهاية السنة، من هنا، يندرج هذا العمل السينمائي، الذي أشرف على إخراجه المخرج الأمريكي المصري سام إسماعيل، في إطار الأفلام المخصصة باستقبال العام الجديد واستشراف المستقبل، وهو بالمناسبة مستوحى من قصة كتاب يحمل الاسم نفسه، للمؤلف رومان علام (Rumaan Alam).
خلف قصة هذا الفيلم، يحاول المخرج أن يصور لنا، خطورة التبعية واللاستقلالية جراء الارتباط الكبير الذي أصبح للإنسان بالأنترنيت، طارحا سؤالا عريضا ومهما، حول مدى القدرة على العيش بدون وسائط التواصل الحديثة إذا تم الهجوم على الأنظمة المعلوماتية والأقمار الاصطناعية باعتبارها مصدر الشبكة العنكبوتية؟
ومن جهة أخرى، يقف هذا العمل عند درجة إيمان الإنسان بفكرة التعايش المشترك أثناء أوقات الشدة، فبدل مواجهة المصير الواحد جماعة، تبرز، أحيانا، غريزة البقاء، والأنانية، والعدوانية، والعنصرية، وتظهر بشكل أكبر الفوارق الاجتماعية داخل المجتمع، ذلك أن الإمكانيات المادية تظل أمرا مهما لتوفير لوجستيك مواجهة تحديات الكوارث الطبيعية والإنسانية (تشييد مباني تحت الأرض، التوفير الاستراتيجي للغذاء..).

أماندا الثائرة وروث العدوانية

تبدأ أحداث الفيلم، باتخاذ أماندا (جوليا روبرتس) لقرار ذات صباح، يقضي بدعوة أفراد أسرتها؛ الزوج كلاي (إيثان هوك)، وابنها آرتشي (تشارلي إيفانز)، وابنتها روزي (فرح ماكنزي)، إلى استقطاع وقت زمني من حياتهم اليومية، للاستراحة نهاية الأسبوع في قرية بعيدة عن ضغط المدينة، حيث ستقضي الأسرة أوقاتا عصيبة، نتيجة انقطاع شبكة الهاتف والأنترنيت.
كان أفراد العائلة يمنون النفس، بالاستمتاع بأجواء العطلة بشكل مثالي، لاسيما وأن أماندا اكترت منزلا فاخرا (فيلا)، بالقرب من شاطئ البحر والغابة، بيد أن انقطاع الإنترنيت، سيدخل الأسرة في حالة من التوتر، والهلع، والشك، والخوف والصراع من أجل البقاء، تمكن المخرج من تصويرها بشكل محكم ومتقن.
بوادر الكارثة التي لم تكن في حسبان، بدأت بالخروج غير الطبيعي لسفينة خاصة بنقل السلع عن مسارها، نحو الشاطئ الذي يوجد المصطافون فوق رماله، إذ أن العائلة لن تطلع عن سبب الحادث، إلا بعد اكتشاف حقيقة انقطاع الأنترنيت الذي بات مصدر نشاط وتحرك الإنسان، من قبيل تعويض بوصلة الملاحة التقليدية بنظيرتها الرقمية الجديدة.
خلال الليل، ستفاجأ أسرة أماندا، بزيارة غير مرغوب فيها، من قبل صاحب المنزل الأسود البشرة والثري، جي إتش (ماهرشالا علي)، وابنته روث (ميهالا هيرولد)، حيث أدى ذلك، إلى دخول العائلتين في حالة شد وجذب، ذلك أن أماندا الثائرة والسلطوية التي تكلفت بكراء المنزل، عبرت عن رفضها لطلب جي أتش وابنته، بالمكوث في محل سكناهما، بعدما دفعهما انقطاع الإنترنيت إلى العودة من حفلة في الخارج، واضطرارهما إلى عدم التقدم باتجاه المدينة التي يمتلك بها جي إتش شقة سكنية.
اقتنعت أماندا الغاضبة على مضض، أمام إصرار جي إيتش وروث، بضرورة إقامتهما في المنزل، خصوصا أن كلاي الذي تعامل مع الموقف ببرودة وهدوء، رحب بالفكرة، إحساسا منه بالخطر الذي يهددهما، رغم أن الشكوك ظلت تساور أماندا بشأن الضيفين غير الموثوق بهما، واللذين يدخلان في اللامتوقع والخطر الذي يهدد أسرتها.
بعد قضاء ليلة بيضاء، قرر أفراد الأسرتين، البحث في الصباح بالطرق التقليدية عن أسباب اختراق الأنترنيت، توجه كلاي نحو القرية لاقتناء الجرائد واستقصاء الأخبار، حول سبب الحادث الذي أرجعته الحكومة في رسالة تلفزيونية إلى هجوم خارجي، غير أن رحلة كلاي باءت بالفشل، لأن أغلب ساكنة المنطقة لا تتوفر على معطيات موثوق بها، بشأن ما يقع.
أدى هذا العطل في خدمات الأنترنيت إلى هروب مختلف أصناف الحيوانات نحو مناطق متفرقة في القرية، بفعل حوادث السيارات والطائرات.. وهو ما كانت تلاحظه الطفلة روزي أثناء متابعتها في حديقة المنزل، لحلقات مسلسلها المفضل “فراندز” (Friends)، ذلك، أنه رغم إخبار أفراد عائلتها في البداية بالذي يحدث في الخارج، إلا أنهم لم يأخذوا حديثها بمحمل الجد، وسيتبن لاحقا، تحديدا، بعد ذهاب جي إيتش وكلاي إلى الخارج، بأن انقطاع الأنترنيت أدى إلى دمار واسع، كسقوط الطائرات التي ضلت عن إحداثياتها.
اعتقادا من أماندا وكلاي، بأن المنطقة التي يوجدان فيها إلى جانب روزي وآرتشي وحدها المنقطع عنها الانترنيت والمهددة بمزيد من الهجوم، قررت الأسرة العودة إلى منزلها في المدينة، حيث “يستتب الأمن”، وهو ما فرحت له روث العدوانية التي دعت والدها إلى ضرورة استرجاع منزلهما الذي يسكنه الغرباء، بيد أنه سرعان ما ستعود الأسرة مجددا إلى المنزل “الآمن”، بعد وقوفها عند حجم الدمار الذي تعرض له مدخل المدينة، نتيجة حوادث السيارات ذاتية القيادة، فالفيلم صور كيف أن المركبات الكهربائية لعلامة “تسلا”، لم يعد متحكما فيها بعد اختراق أنظمة الأنترنيت.

ضرورة التعايش

وجد أفراد أسرة كلاي وجي إيتش نفسهم ملزمون بالتعايش داخل منزل واحد، رغم الرفض الذي أبدته روث غير المرتاحة لزبناء والدها، داعية إياه إلى عدم السماح لهم بالدخول مرة أخرى، بعدما تنفست الصعداء عقب قرار مغادرتهم، لكن جي إيتش الأسود، الذي بدا رزينا وحكيما ومتعايشا مع ضيوفه البيض، لم ينسق وراء مطالب ابنته، بحكم السياق الذي تمر به البلاد، والذي يفرض على الجميع تقبل الآخر ومساعدته إلى حين تجاوز الأزمة.
وستتجلى مظاهر التآزر، عقب تساقط أسنان آرتشي، حيث بادر جي إتش إلى مساعدة كلاي للبحث عن علاج لدى داني، المهندس الذي صمم منزله، ذلك أنه بعد رفض مساعدتهما في البداية، وتهديدهما بالسلاح لمغادرة المكان حماية لأسرته، قدم الدواء للصبي، مقابل دفع الوالد كلاي مبلغا ماليا مهما، وأوضح داني لضيوفه، أن سقوط أسنان آرتشي ناتج عن سلاح أشعة “الميروويف” التي تصدر عبر الصوت.
بينما كانت العائلتان منغمستان في النقاش حول ما تتعرض له الولايات المتحدة الأمريكية، خرجت الطفلة روزي من المنزل، على متن دراجة هوائية، فالفضول قادها إلى دخول منزل عائلة ثورن الذي وجدت الغذاء به، وستكتشف فيما بعد، وجود مكان تحت الأرض بالمنزل، يبدو أنه خصص لحالات الطوارئ والكوارث، نظرا لتجهيزه بمختلف وسائل العيش والراحة؛ خزانة للغذاء، قاعة للرياضة، مكتبة وفضاء للمطالعة، وأشرطة فيديو، حيث عثرت على مسلسلها Friends الذي كانت تتابعه عبر الأنترنيت، في قرص مدمج داخل خزانة عائلة ثورن، لتقرر مشاهدة الحلقة الأخيرة منه.
اختار المخرج سام إسماعيل بهذا المشهد أن تكون نهاية فيلمه، الذي أنتجته شركة Higher Ground التي يملكها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وزوجته ميشيل أوباما، نهاية متفائلة، عبر تصوير فعل مشاهدة روزي لمسلسلها الشهير بين الجمهور Friends، الذي يحكي عن أصدقاء يعيشون جماعة في مانهاتن رغم الفوارق الاجتماعية التي توجد فيما بينهم.
ولا يخلو Leave the World Behind من رسائل سياسية محافظة، في إحالة على الخلفية السياسية لزعيم الحزب الديمقراطي الأمريكي، باراك أوباما، الذي وكأنه بدعمه لهذا الفيلم، يحاول أن ينبه بشكل غير مباشر إلى الوضع السياسي والاجتماعي المتفكك بالولايات المتحدة، التي تعاني من أزمات داخلية وخارجية، في حاجة إلى التأمل فيها وتصحيح مسارها، من قبيل التعايش بين السود والبيض، وحجم العداء الذي بين الولايات المتحدة وبعض دول العالم.

يوسف الخيدر