مبدعون مازالوا بيننا -الجزء الثاني- الحلقة 3

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.
في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

العربي بلقاضي… كاريكاتير الكياسة وملاحة الفكاهة

يعد الفنان العربي بلقاضي (1939 – 2001) من أوائل رسامي الكاريكاتير الساخر بالمغرب مطلع الستينات من القرن الماضي، إذ بدأ الممارسة الكاريكاتورية لأول مرة بجريدة “أخبار الدنيا” التي كان يديرها الأستاذ مصطفى العلوي، حيث خصص له ركنا بعنوان: “اضحك مع بلقاضي”، وكان “الحاج البوحاطي” بطلا رمزيا لجل رسومات هذا الطابع الفكاهي، قبل أن تظهر إبداعاته لاحقا بجريدة ليبراسيون. فضلا عن ذلك، تميز الفنان بلقاضي – المتخرج من مدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء – طوال مشوراه التشكيلي خطاطا ونحاتا مبدعا في النحاس والألمنيوم باعتماد النقش والطرق والتطويع، وكانت الخيول والفرسان تتصدر مواضيعه.

اضحك مع بلقاضي

تابع الفنان الراحل العربي بلقاضي دراسته الابتدائية بمدرسة جسوس والثانوية بمؤسسة مولاي يوسف التي تعرف أثناءها على الرسام مولاي أحمد الإدريسي، حيث نشأت بينهما علاقة حميمية قوية.. وكان الإدريسي يدعم كثيرا بلقاضي ويشجعه على إنتاج فن أصيل وجاد. في مرحلة لاحقة، سيلج الفنان بلقاضي مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء رغم معارضة الأهل لذلك باستثناء جدته الوحيدة التي آزرته.
عقب ذلك، وكما هو الشأن بالنسبة لتشكيليين مغاربة آخرين كمحمد القاسمي وميلود لبيض وبوشعيب هبولي، سيستفيد الفنان العربي بلقاضي من ورشات تكوينية بمرسم الفنانة جاكلين برودسكيس التي كانت تقيمها ضمن تنشيط فني وإبداعي تابع لبرامج وزارة الشبيبة والرياضة، وكان بلقاضي يلقب طيلة تلك الفترة من قبل زملائه بـ “فان غوغ”.

في الفترة الممتدة بين سنتي 1964 و1966 استفاد الفنان بلقاضي من تكوين أكاديمي بفرنسا، وتحديداً بمعهد الدراسات العليا السينمائية بباريس. من ثم، صارت له موهبة متقدمة في التزيين وديكور الفيلم والتلفزيون والمعمار. يحكي عنه أخوه الحسن بأنه كان مولعا بالقراءة والاستماع إلى الموسيقى الروسية، وعلى الأخص تشايكوفسكي وسترافنسكي وكوفييف، ومشاهدة الأفلام السينمائية بشكل طقوسي لدرجة نعته سهيل بنبركة المخرج والمدير الأسبق للمركز السينمائي المغربي: بـ “الديناصور الذي لا تفلت منه أية قصاصة أو خبر حول السينما”.
ابتداءً من عام 1964، دأب الفنان بلقاضي على العرض التشكيلي بشكل منتظم وذلك بالمركز الثقافي الفرنسي في الرباط. عقب ذلك بسنوات، سيسطع نجمه عاليا وسيحظى بكتابات ومتابعات نقدية أهمها للكاتب سليم الجاي. كما حظي باهتمام ملحوظ من قبل الرواقية لوسافورو التي كانت تدير رواقا فنيا في الدار البيضاء خلال ذلك الإبان (عزيز داكي: العربي بلقاضي، أو قدر رسام مغربي، 2008).

فرسان على نحاس

يذكر ذ. بوشعيب الضبار أن “إحساس الفنان الراحل العربي بلقاضي كان عاليا، وكانت وجوه السياسي تستهويه فيداعبها فنيا. كما شاكس بريشته المشاغبة كل رجال ذلك الوقت: عبد الخالق الطريس، علال الفاسي، المحجوبي أحرضان، أحمد رضا گديرة، مولاي أحمد العلوي وغيرهم.
وكانت ردود أفعال هؤلاء تختلف من واحد إلى آخر… الكثيرون عبروا عن استيائهم وامتعاضهم مرارا من هذا “التطاول” على ذواتهم !إلا أن قصته مع الزعيم الراحل علال الفاسي جديرة بأن تروى: ذات يوم جمعته الصدفة في حفل استقبال بالرباط مع زعيم حزب الاستقلال، وجها لوجه، فوقف بجانب سارية تفاديا لأي إحراج، فرمقه علال الفاسي بنظرة حانية ذات معنى، وبعث من يهمس في مسمعه: “إن سيدي علال يقول لك: أنا فخور بك وبفنك”. وهذا ما يدل على رحابة صدر صاحب “النقد الذاتي”، وقبوله للرسم الساخر حتى ولو كان قاسيا ولاذعا وموجعاً ومستفزا…
كانت هذه الذكرى من أجمل الذكريات التي يحتفظ بها بلقاضي، حيث حفزته هذه الكلمة التشجيعية على مزيد من المشاغبة” (بوشعيب الضبار: “الكاريكاتير في المغرب – العربي بلقاضي/السخرية في زمن الغليان السياسي”، جريدة الميثاق الوطني – الإثنين 07 ماي 2001).
تعد رسوم العربي بلقاضي رصدا لكثير من الأحداث العصيبة التي عاشها المغرب السياسي خلال الستينات والسبعينات، والتي ظل يصوغها الفنان ويجسدها بأسلوب تصويري سهل وبسيط أقرب إلى التصوير الشعبي الذي يكثر فيه الاختزال والإقلالية في الرسم، ويمكن إدراج رسوماته ضمن الكاريكاتير التعبيري القائم على التحرر من التفاصيل واعتماد التبسيط لإعطاء المجال كاملا لبروز الفكرة الساخرة، وهي الطريقة التي كان ابتدعها الفنان الفرنسي الناقد دومييه في رسمه للبورتريه. بدأ هذا النوع من التعبير الساخر مع الفنان السويسري توبفير (1845) الذي يقول: “إن رسم خط رمزي معبر يمكن أن يهز المشاهد والقارئ ويحكي رواية دون أن يَحدث نقص في العمل التصويري”. ويعد الفنان الإسباني المعاصر ناندو من رواد هذا الاتجاه التعبيري.
ظلت هذه الرسوم تتسم بالكياسة وملاحة الفكاهة، أو ما يعرف بضحك الاستقبال على حد تعبير دوبريل، وتجسد قدرة الرسام بلقاضي على التندر على خصومه، وهم في جل الحالات مسؤولون في قطاعات ومؤسسات مختلفة وإخجالهم بفضل الحس الكاريكاتيري المرهف الذي يتميز به.
فهو يوظف البعد اللعبي في رسوماته لإنتاج الضحك من حيث هو أداة لتصويب الخطأ وتقويم الاعوجاج وفضح الادعاء من منظور الجاحظ. لذلك نجده يميل كثيرا إلى إبداع كاريكاتير خاص (شعبي) يتجه نحو الإمتاع والمؤانسة بأشكال وصيغ فكاهية ساخرة، لكنها خالية من العنف والعدوانية والتجريح.

الكاريكاتير كسلاح جمالي

إن الفنان العربي بلقاضي – الإنسان والرسام – ظل طوال حياته يمقت الطباع المذمومة والمثالب المنبوذة ويرفضها مستعملا في ذلك الكاريكاتير كسلاح جمالي مشحون بطاقة ازدرائية بصرية ساعدته كثيرا على تحويل مواقف محزنة إلى مواقف مضحكة، أو ممارسة التسلي بالضحك، وفق تعبير نيتشه.

ولأن “الصورة فضاءٌ لمقاومة المعنى”، كما يقول رولان بارث، فإنها في إبداعات الرسام العربي بلقاضي وسيلة لإنتاج المعنى، ذلك أنه من عمق منجزه الكاريكاتيري تبرز سمات إبداعية عديدة، من بينها: قدرته على إنجاز أعمال فنية ساخرة نابعة من وجدان وقاد ومشبع بالهموم، إنجازه لرسوم تبسيطية لا تحتاج إلى تعليق لأنها مفعمة بالاحتراق ومعبرة عن المأساة، ميله إلى المبالغة المعتدلة في تكوين الأشكال وإبراز الشخصيات، توفره على إمكانية إبداعية متقدمة وموهبة في رصد والتقاط الموضوعات من الشارع والحواري والأسواق الشعبية ومن حياة الناس، اعتماده على الخط والتظليل والتسويد الخفيف لخلق قوة تضادية بين الأشكال والنماذج المرسومة، اهتمامه بالخلفية لإعطاء الموضوع توازنا جماليا وعمقا للفصل بين المستويات.
إلى جانب كل هذه السمات، يظهر الخط في رسومه قويا ومعبرا يجعل منه الفنان بلقاضي وسيلة لمنح الأشياء حياة في رسائلها وأدوارها الساخرة والقريبة من واقع وانشغالات المجتمع. فمن وحي الشارع والحارات الشعبية وكواليس الإدارات والمكاتب المخزنية والمحن والبلايا التي يتعرض لها البسطاء من الناس، كان الرسام العربي بلقاضي يغترف موضوعاته التي كان يبصمها على الورق بدعابة وروح كاريكاتيرية مرحة وشفافة من دون إخفاء ومواربة، الكثير منها لم يجد طريقه إلى النشر. ظل يحلم بجمع رسوماته في كتاب مونوغرافي (أيقونوغرافي) يؤرخ لتجربته الكاريكاتيرية الرائدة:
“إني أنهمك الآن في تأليف كتاب يضم بين دفتيه مجموع رسوماتي الكاريكاتيرية الساخرة، وسوف أدفع به إلى المطبعة عما قريب، ليخرج إلى حيز الوجود، وينعم برؤية النور مستقبلا إذا ساعدتني الظروف، ولم تقف حجر عثرة في طريق صدوره” – الكلام للفنان بلقاضي (مجلة فنون، العدد 1 و2- أبريل/يوليوز 1976 – ص. 100 و103).
لكن الأقدار شاءت أن يجهض هذا المبتغى ويرحل الفنان العربي بلقاضي إلى دار البقاء دون أن يحقق حلماً راوده كثيراً طوال حياته إلى أن وافته المنية وفي قرارة نفسه الكثير من صور الكاريكاتير.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Top