إسطنبول.. مشاهد ما بعد محاولة “الانقلاب”

بحثت عنه قرب الرصيف، وفي صورة أحتفظ بها في هاتفي، فلم أجد له أثر. اعتقدت أني ساجده ينتظر الطائرات والحافلات ليحكي لها عن تلك الليلة.
وصلناها ليلا، والناس نيام، اخترقنا شوارعها بهدوء، قاصدين مكانا يعلو بعشرين، لنتقاسم وأهلها هدوء الليل وسواد السماء، وحكاية تلك الليلة.
الحياة، تختلف نهارا، أشغال لا تكاد تنتهي، ورش كبير تعرفه المدينة، وحركية تتباين من نقطة لأخرى.
قصدنا السوق الكبير، قيل لنا، ستجدون ما تشتهون، وحتى صاحب حكاية الليلة، دروب تخترق بعضها البعض ومرتبة بدقة، أذان عربية تسترق السمع، فتقتنص كل اثنين أو ثلاثة أو غير ذلك. فيكفي أن تسمح للسانك بالتغني بكلمات عربية، حتى تلقفك الأعين، ثم تليها الكلمات.
له أكثر من باب، أما دروبه فتزيد عن الستين، دخول “البازار” الكبير ليس كخروجه، فالسوق ضارب في عمق التاريخ، وأحجاره وسقوفه وحتى أبوابه شاهدة على ذلك.
فأما الأعين والكلمات، فهي لشباب أغلبهم سوري، يشتغلون في محلات السوق، يحاولون إقناعك بمنتج ليس في الحسبان، منهم من يظفر بالصفقة ومنهم من ينال “شرف المحاولة”، فلكل ثواب، حسب شاب سوري.
كلما توغلنا في عمق السوق، يزداد عبق التاريخ، ولا يحلو هذا العبق، دون الوقوف عند محلات بيع الحلويات، فيزداد العبق حلاوة مع مهارة أهل المنقطة، وإبداع أناملهم في ترويض العجين.
الشمس تقترب من مستقرها، والسوق يأبى أن يفارق ضيوفه، فكلما هممت بالخروج، يلقفك درب من دروب الستين، فتشعر كأنك تدخله أول مرة، وكذلك يشعر الكثيرون.
ظلام المساء يرى من بعيد، وصاحب حكاية الليلة، لم يظهر له أثر، لا في الحيطان ولا في الجدران، فحتى طلاء الأرض لم يرصد خطواته.
شيخ بملابس رثة، يتوسط زقاقا ضيقا، يحضن صحفا بين يديه، يبيعها للسائلين، فلربما علاقته بالورق أكثر ارتباطا بعلاقته بالأهل والأحباب.
للسوق تفاصيل كثيرة، يتقاسمها مع أسواق في المغرب، أولها مراكش، وثانيها فاس، والبقية فقط في تفاصيل هامشية.
قرب “الكبير”، تاريخ كبير كذلك، شوارع صغيرة تقذف بك نحو ساحة تتوسط سحرين، الأول لا ينسيك الثاني، بل هما سواء في السحر والجمال، وحتى التاريخ.
مسجد سمي بالأزرق، وهو للسطان أحمد، حاكم وشاعر، فلمسة الشعراء بادية على تفاصيل “الجامع”، أنشأه قبل أزيد من 400 عام.
يحكي صديق، أن للمسجد هندسة غريبة تسمع صوت الخطيب أو الإمام لجميع من فيه، دون الحاجة لمكبرات الصوت، فمعماره بني على أسس علمية دقيقة لتكبير الصوت عبر استثمار فضاء المسجد.
للمسجد زوار من جميع بقاع العالم، لا يفرق بينهم في اللون أو العرق أو الدين، فأبوابه مفتوحة، إلا في أوقات الصلاة فيمنع دخول غير المسلمين إلى داخل المسجد، أما بهوه وفضاءاته الخارجية فغير معنية بذلك.
يقابل “الأزرق”، آيا صوفيا، كنيسة فمسجد ثم متحف، فمسجد من جديد، وما يزال صاحب الحكاية لا يرى له أثر.
عندما تقصد نقطة التقاء ظلي “الساحرين”، يكفي أن ترفع عينك للسماء وتلتقط الصوامع، فتعود بك الذاكرة لقصص التاريخ، وصور ومشاهد استهلكتها عبر الأفلام أو المسلسلات التاريخية.
شاءت الأقداء، أن نكون في أول يوم يرفع فيه الأذان بآيا صوفيا، بعد 85 سنة، فتعيش “سيمفونية” رهيبة، يشرع فيها “الأزرق” ثم تجيبه “صوفيا”، فتنادي المساجد الصغيرة المتراصة في جوانب المنطقة.
وراء هذا التاريخ، مضيق غير لجي، يقسم المدينة نصفين، الأول أوروبي، والثاني آسيوي، فالمدينة يسكنها عشرون مليون إنسي، يتنقل منهم تسعة ملايين يوميا بين الأول والثاني، عبر العبارات والحافلات والسيارات والقطارات المعلقة، أما تحت الأرض فهناك “ميترو الأنفاق”.
شبكة النقل في المدينة رهيبة، بطاقة واحدة تكفيك للتنقل عبر حافلاتها وعباراتها، وكذلك “الترمواي” و”القطار المعلق” أو “ميترو الانفاق”، أما الطرق، فأغلب شوارع المدينة واسعة، وقنطرة تنسيك في الأخرى، ورغم كل ذلك ماتزال حركة السير تختنق.
أما سيارات الأجرة، فإن كنت غريبا عن المدينة فتحتاج للتمرس على لغة الإشارة قبل المجيء للبلاد، فأغلب السائقين لا يتحدثون غير لغة بلادهم، وحتى كلمة واحدة بلغة أجنبية إذا سمعتها وجب عليك تهنئة السائق، ودعوته لكأس شاي، فالإنجاز كبير في حضرة إسطنبول.
اختلف الكثيرون في تسمية المدينة، فمنهم من يربطها باليونانيين، وآخرون بالمسلمين، لكن الأكيد أن اسمها إسطنبول، فهي مدينة بجسدين أوروبي وآسيوي، لكن بروح واحدة.
كما أصحاب “الطاكسيات”، فالتشوير في المدينة متعب، يمكن أن تتمكن من تشفير بعض الحروف التركية لمعرفة اتجاه منطقة، لكنك أكيد لن تستطيع تشفير البقية، فأغلب علامات المدينة منقوشة بلغة تركية.
في مدينة بحجم اسنطبول، تحتاج لتطبيق الترجمة، أو في أحسن الأحوال الاستعانة بخدمات غوغل، فحتى بطاقة “الترامواي” وغيرها من الوسائل مكتوبة باللغة التركية.
يحكي صديق، بأن الأتراك يستهلكون كل شيء باللغة التركية، وفي طريفة يقص على أن أول من بلغ القمر تركي، في محاولة لتقريب حجم ارتباط الأتراك بلغتهم وهويتهم.
لأسطنبول، روح غريبة، تتمسك بك كلما حاولت مغادرتها، فقصورها وبحارها، وتفاصيل دروبها، بل حتى صاحب الحكاية، كلها تأبى أن تودع ضيوفها.
قصدنا تقسيم، ميدان، مستعد لحكاية ألف قصة، للمحبين والحالمين، والعابرين، ومعهم صاحب الحكاية.
في الميدان، ينزل أبناء المدينة، ومعهم أهل البلاد، ويشاركهم المكان جميع الوافدين من مختلف بقاع العالم، فالساحة تحتضن في بطنها محطة لـ”ميترو الأنفاق”، حيث يصلها الكثيرون بسهولة.
لا يمكن لزائر تقسيم، أن يغيب عنه برج غلطة، بناية تعود لمئات السنين، يكفي أن تقصد في مشيك من الميدان عبر “الاستقلال” لتصل إليه.
أما “الاستقلال”، فهو من أشهر شوارع المدينة، تتنفس تاريخ المدينة، فالتجول فيه كأنك تجولت في باريس ولندن وعواصم غربية.
طوله يزيد عن 3 كيلومتر، يتوسطه أحد أقدم “تراموايات” العالم، فالناقلة ماتزال تشتغل، لكنها سياحية فقط.
تتفرع من الشارع دروب وأزقة صغيرة، تخفي وراءها مقاهي عريقة، وبنايات أوروبية الهندسة.
في تقسيم ونواحيها، ملامح معمار أوروبي، أما في منطقة السلطان أحمد حيث “الكبير” والمسجد و”صوفيا”، فالروح مشرقية، ويفصل بينهما “البوسفور”.
“البوسفور” يقسم المدينة، والإبحار في مياهه طولا، يمنحك فرصة الوقوف على تاريخ كبير، لقصور على ضفاف تجميع بين المعمار المشرقي والغربي.
وللوقوف على مسافة واحد بين النصفين، فجزيرة الأميرات المكان الأنسب لمشاهدة سحر المدينة من قلب بحر مرمرة.
نهار المدينة يختلف عن ليلها، فهي مقبلة على الحياة، وأهلها متمسكون بالأرض، فلا تكاد تجد منزلا لا يضع علم البلاد، سواء فوق السطوح، أو على الشرفات أو غير ذلك، فالعلم التركي تجده في كل مكان، بل تجد باغة متجولين يحلون أعلام تركيا ويبيعونها في الأسواق.
وأما صاحب حكاية تلك الليلة، فقد وجدته في البائع والتاجر والسائق والشرطي والتركي الذي خرج ذات ليل دفاعا عن “ديمقراطية” بلادهم.

اسطنبول – يوسف سعود

Related posts

Top