قبل شهور قليلة من وفاة الكاتبة المغربية مليكة مستظرف، في الفترة التي كانت تعاني من مضاعفات مرض القصور الكلوي، مطلع الألفية الثانية، كنت قد رتبت عدة جلسات معها لأجل تسجيل مذكراتها، نشرت جزءا منها في ذلك الإبان بجريدة بيان اليوم، حيث تحدثت عن روايتها الأولى «جراح الروح والجسد» وهي لا تزال عبارة عن مخطوط وعن متاعب النشر وعن مرضها المزمن وعلاقاتها الإنسانية.
“أقطن في نفس الحي الذي يقطن فيه الكاتب محمد زفزاف، وكنت دائما أراه وهو قادم من السوق الذي يقع بالقرب من الدار، لأنه من عاداته أنه كان يشتري السمك والورد في وقت واحد.
كنت أره وأميزه من بين الجيران كلهم، وأنا ما أزال طفلة، ولكن لم يحدث أن تجرأت على أن أسلم عليه. ربما أنني كنت أخجل، ولكن السبب الرئيسي، هو أن زفزاف كان يتصف بهيبة ووقار، بلحيته وبقامته الطويلة.
كنت قرأت له قصصا قليلة، وكان تجاوبي معها كبيرا. من بين هذه الكتب: “المرأة والوردة”، و”بيوت واطئة”.
كان تعبيره عفويا وخاليا من التعقيد، وهذا هو السر في أن كتاباته، يمكن أن يقرأها الكبير والصغير، بدون أن يعترضه أي مشكل.
كانت نظرتي عنه بريئة. ولكن كنت معجبة به. خصوصا حينما كان يظهر في التلفزة. كان يسكن في نفس الحي الذي أسكن فيه.
كانت تثيرني طريقة كلامه.
كان يدرس في ثانوية اسمها النجد. ولكن لم يسبق له أن درسني. أنا درست في مدرسة خاصة بالتعليم الأولي، تقع قبالة منزله. وكان يعطف على التلاميذ. كنت ألاحظ هذا، بدون أن أتجرأ على الاقتراب منه. الكثير من التلاميذ الصغار كانوا بذهبون لزيارته في بيته، وكان يعطيهم الحلوى. كان يعامل جميع “الدراري” الصغار مثلما يعامل أبناءه.
وأنا طفلة، كنت أنظر إليه بأنه إنسان مختلف عن الآخرين. ولكن لم أكن أعرف أنه أديب. كنت أرى التلاميذ الذين يدرسون معي، يطلعون إلى داره. ولكن لم أكن أتجرأ على الطلوع معهم. كان يبدو لي في الطفولة بأنه إنسان مهيب.
بعد سنوات كثيرة. زرته في بيته، ولكن ما شجعني على الذهاب عنده ومجالسته، أنني كنت كتبت روايتي الأولى، وكنت لم أطبعها بعد. هذه الرواية اسمها: “جراح الروح والجسد”. وكانت عندي رغبة في أن أقدمها له من أجل أن يقول لي رأيه فيها، وفي نفس الوقت، يمهد لي الطريق لكي أنشرها. لم أكن أعرف أي شيء عن عالم النشر. وكان عندي اعتقاد بأن الأديب المرحوم، يأخذ بيد المبدعين المبتدئين.
ومع أنني كنت أعرف محل سكناه. لم أذهب عنده مباشرة. فضلت أن أتصل به عبر هاتفه الثابت. حتى لا أفاجئه وأفاجئ نفسي. لم أكن أتوفر على رقمه الهاتفي. استعنت بدليل الهاتف.
كان هذا في سنة 1996. كان لدي حماس كبير لأن أقدم له مخطوط كتابي الأول. اتصلت به عبر الهاتف، ورحب بي. رتبت معه موعدا. ما أزال أذكر الساعة بالضبط. كانت الساعة العاشرة صباحا. وأنا في الطريق، كانت أسئلة كثيرة تتصادم في رأسي:
كيف سيستقبلني الكاتب المشهور؟ هل سأواجه حواجز؟ كيف سيكون تعامله معي؟ هل هو تعامل الأستاذ مع تلميذه؟
ولكن المخطوط كان يزرع في نفسي بعض الثقة.
كان هو الذي فتح لي الباب بنفسه.
توجهنا إلى غرفة الضيوف. كان يجلس قرب الشرفة، على كرسي قديم. وأمامه قنينة. وكان يدخن بنهم شديد إلى درجة أنه كان يشعل سيجارة بواسطة أخرى انتهى لوته من تدخينها. وكان يستمع إلى إذاعة ميدي 1 . ولم يكن لدي عنه نفس التصور. كان لدي انطباع عنه بأنه إنسان متعجرف. لكن ما فاجأني فيه بالخصوص، هو ترحابه الكبير بي.
وجدت عنده مجموعة من البنات. ليست لهم علاقة بالثقافة. وفي هذا الجو، كنت في كل مرة أحاول أن أتكلم معه عن مخطوط روايتي، كان يقول لي:
من بعد، من بعد.
وكان يحول الكلام عن أمور أخرى.
زيارتي الأولى له لم تستغرق وقتا كثيرا. أظن أنها لم تتجاوز نصف الساعة، ولكن ما لم أكن أتوقعه هو أن يدور الحديث عن كل شي إلا عن شؤون الثقافة والكتابة وما إلى ذلك.
كان المرحوم مصمما على أن يؤجل الكلام بهذا الخصوص. حتى مخطوط روايتي لم يناقشه. مع أن هذا المخطوط كان سبب زيارتي له.
كنت أطمح إلى أن يساعدني على التعرف على دار نشر والقيام بالخطوات القادمة وأنا في بداية مسيرتي الإبداعية. ولهذا تركت عنده المخطوط لكي يقرأه.
بعد فترة من ذلك، حصل تحول سلبي في علاقتي معه، كانت زيارتي الأولى له، من أجل شيء واحد، وهو أن يطلع على مخطوط روايتي: “جراح الروح والجسد”، وكنت محتاجة لنصائحه، سيما وأنني لم أكن أعرف أي شيء عن عالم النشر، ولما سلمت له المخطوط، كنت أطمح لكي يقرأه، ولكن الوقت كان يمر، وهو كان دائما يؤجل قراءة مخطوطي، ولما ألححت عليه بأن يقرأه، اقترح علي أن آتي يوميا عنده وأتلو عليه في كل يوم صفحة، ولكني لم أعمل باقتراحه هذا، مر عامان، والمخطوط عنده، بدون أن يقرر أن يقرأه، ومن ثم وقع اصطدام بيننا وصارحني بأنه حين كان في سني، لم يكن يجد من يأخذ بيده، وقال لي بالحرف:
عومي ببحرك لوحدك.
كان يضع مخطوط روايتي في خزانة تحت السرير..”.
> إعداد: عبد العالي بركات