تنضاف رواية «أمومة لم تكتمل» ل «ريبرتوار» الروائي والقاص المغربي مصطفى لغتيري المطبوع بالغزارة والتنوع في اجتراحه لونا مغايرا ومختلفا يندرج ضمن موضوع الخيال العلمي مانحا رواياته المتعددة «تيمة» جديدة تؤثث سيرورته الإبداعية بنمط كتابة يثري رصيد موضوعاتها المتنوعة بين ما هو تاريخي وتراثي واجتماعي ونفسي … من خلال سبره لأغوار المجتمع كاشفا ومُكتشِفا ما يضمره من أعطاب وآفات، مستجليا ومستبطنا ما يحكم شخوصه من علاقات صادرة عن نزعات نفسية وعقدية وحسية، لتشكيل وقائع تنحت، عبر تطور وتيرة سيرورتها، معالم إبداعية تعج بحالات موسومة بالعمق والغنى والتنوع.
وسنعمل من خلال هذه الورقة على ملامسة بعض عناصر هذه الرواية وفي مقدمتها العنصر التكنولوجي الذي اخترق جل فصولها وتفاصيلها، وتغلغل في نفوس وأذهان شخوصها ليتحكم في سلوكياتهم الحياتية بشتى مقصدياتها وتجلياتها: “حين كان رفائيل وريم منخرطين في الحديث، كانت بعض الروبوهات منهمكة على قدم وساق في إعداد مائدة الإفطار، الصحون تنتقل بشكل آلي، فيما كانت ريم تنظر بطرف خفي إليها، لقد برمجتها سلفا للقيام بهذا العمل … ” ص 16/ 17، فغدت الروبوهات تنوب عن الإنسان في القيام بعدة أعمال وخدمات، مما يفتح الحياة البشرية على آفاق حبلى بتغييرات جذرية في نمط العيش وآلياته. فإضافة إلى إسناد مهمة إعداد مائدة الطعام إلى هذه الروبوهات والتي تتنوع خدماتها الآلية المتطورة في العديد من المجالات كرحلات التنقل والسفر: ” بسرعة غادرت ريم الفندق، حشرت جسدها في الكبسولة العجيبة ، داعبت بأناملها بعض الملامس، فما فتئت الكبسولة أن انطلقت نحو وجهتها، وبانسياب ناعم مرت بين باقي الكبسولات، رغم كثافتها الملحوظة في هذا الوقت من النهار تحديدا.” ص 112، وقد كانت لهذا التطور التكنولوجي الهائل آثار جلية على الزمن الذي غدا منفلتا من ربقة الحاضر في استباق يقود للانخراط في إهاب قادم بمعالم وملامح متطورة ومتجددة : ” فنحن الآن نطل على القرن الثاني بعد الألفية الثانية وبالتحديد في سنة 2098 م، ولا تفصلنا سوى سنتين عن الاحتفال بالقرن الجديد … ” ص 7، فيصير هذا المد المتقدم في الزمان عبر امتدادات استشرافية: “يتوقف ذهنها في محطات معينة ، ثم ينتقل عبر قفزة جبارة نحو المستقبل … ” ص 4، وأمام هذا الزخم من التطور العلمي الذي انغمست فيه ريم وزوجها الإسباني رفائيل بإقامتهما وسط جزيرة صغيرة: “الفيلا التي تقطن بها ريم منذ فترة غير قصيرة تتواجد في جزيرة صغيرة، لا يعرفها إلا المتخصصون في الجغرافيا … ” ص 4، وهو مكان يحظى بميزات خاصة لما يوفره من هدوء ، وما يحيط به من رفاه بعيدا عن جلبة المدن وصخبها: “تحتل الجزيرة مكانا … وسط البحر الأبيض المتوسط ،تبعد بنفس المسافة تقريبا عن الساحلين الأوروبي والإفريقي … ” ص5 .
ووسط غمرة حياة محفوفة بألوان عيش حافل بأدوات وآليات تكنولوجية حديثة فكرت ريم في تبني طفل يملأ حياتهما حيوية وحبورا ولن يكون إلا كائنا آليا: “سنتبنى إنسانا آليا … لقد صنع الصينيون إنسانا آليا جديدا، لا يفصله عن الإنسان الحقيقي غير القليل، وهو قادر أن يؤنسنا ويبعث البهجة في حياتنا. ” ص 21، مستطردة في تعداد مزاياه: ” إنه ينمو ويكبر … يتفاعل كذلك مع المشاعر والأحاسيس. ” ص 31/ 32. وقد تم لها ذلك، ووثقت صلتها به، واختارت له اسم «صامد»، فتشبثت به، ونافحت عنه في وجه ما جابهها من سخرية أحيانا: “ابنك الآلة .. أقصد صامد .. ” ص 92، ونعوت لا تخلو من قساوة حينا: “صامد مجرد آلة، استيقظي رجاء من أوهامك. ” ص 95، معتبرة إياه ابنها: “أرجوك لا تتحدث بهذه الطريقة عن ابني. ” ص94، الذي يستحيل تركه والتخلي عنه: “صامد ابني ولن أتخلى عنه. ” ص95 ،بل تعدى الأمر ذلك فتجشمت عناء السفر لألمانيا لعلاجه ، حسب رأيها ، وليس إعادة برمجته : ” قررت ريم القيام برحلة إلى ألمانيا لإعادة ، برمجة صامد، أو رحلة علاجية كما تصر على تسميتها… ” ص100 .
ليظل مدلول عنوان الرواية مرتبطا في شقه الأكبر بقصة تبني ريم لروبوت منحته نصيبا أوفر من أمومة أصرت على الزج بها في متاهة وهم حولته إلى حقيقة تفتقر لدفء المشاعر، وحرارة الإحساس وحيويته في علاقتها بأمومة تعتورها العديد من الهنات والنواقص التي تحول دون اكتمال ماهيتها، واتضاح ملامحها. وفي جزء أقل بشيماء شقيقة ريم والتي سلكت منحى آخر في تحقيق الأمومة عبر حمل عن طريق المختبر: “سيكون الحمل في المختبر، وهذا يتطلب مني تفرغا كاملا ، حنى تتم العملية بنجاح . ” ص 29 ، في تتبع بعناية وحرص شديدين لمراحل تكون الجنين: “نعم الجنين الآن في المختبر ، وهو في مراحله الأولى . ” ص 123 ، لتكتمل عناصر صورة عنوان ( أمومة لم تكتمل ) يختزل خلفيات ومقصديات أمومة في زمن شهدت فيه المستجدات التكنولوجية طفرة نوعية توالى معها سيل الإنجازات ، ومسلسل الاكتشافات بوتيرة لا تكف عن السرعة والدوران مما انعكس على العقل والحس البشري فأفرز تصورات وقناعات مشبعة بتجليات زخم علمي مُبهِر أحدث تغييرات جذرية في منظومة القيم والمشاعر الإنسانية كالأمومة التي انزاحت عن أسسها القيمية فغدت فارغة من محتواها العاطفي ، وفيضها الحسي .
وإن كان طابع الاستباق والاستشراف هو المستحوذ على تفاصيل الرواية ومجرياتها بحكم طبيعة موضوعها ( خيال علمي) فهذا لم ينف حضور الاسترجاع في مثل : ” تهيم في ذكريات الماضي البعيد … ” ص 3 ، أو الحاضر على شكل نكوص وإحجام برجوع القهقرى من قادم مشرع على التقدم و الاكتشاف: ” فتنكص القهقرى نحو لحظتها الآنية … ” ص 4 ، فضلا عن اعتماد الحوار كشكل سردي يكسر رتابة الحكي ، ويحد من خطيته في جل فصول الرواية.
وتتجسد كذلك مظاهر الصراع الحضاري بين القوى العظمى في سباق محموم نحو التموقع في مراكز الإنتاج، والتحكم في آلياته متمثلا في النموذج الصيني: “فالصينيون يجنون أموالا طائلة أمام أعين الجميع، والكل ينتظر الفرصة لينغص عليهم حياتهم الهائلة التي تستثمر في كل شيء وتجني أرقاما فلكية يصعب تخيلها. ” ص 88.
فرواية «أمومة لم تكتمل» منجز سردي جديد لأديب ( قاص وروائي ) مغربي ينضاف لرصيده الحافل بغزارة الإنتاج وتنوعه.
هامش:
ــ الكاتب: مصطفى لغتيري.
ــ الكتاب: أمومة لم تكتمل (رواية).
ــ المطبعة: مطبعة بلال ـ فاس ( طبعة ثانية / 2020).
بقلم: عبد النبي بزاز