الفنانة التشكيلية ليلى بنحليمة.. محكيات بصرية من عالم الأخيلة

ولجت الفنانة ليلى بنحليمة مجال الفنون التشكيلية من عالم الطب والصيدلة التي تحصلت فيها على درجة الدكتوراه، واستطاعت على امتداد سنوات عديدة أن تنحت لنفسها مكانة إبداعية لها خصوصيتها الفنية والمتحررة من صرامة التصوير الأكاديمي. لها مساهمات في مجال التصميم الغرافيكي والرسوم المتحركة، فضلاً عن معارضها العديدة حيث أقامت البعض منها في المغرب وتونس وفرنسا وبلجيكا ولبنان وجورجيا والولايات المتحدة.. وغيرها.

دفاعا عن المرأة

تمتح الفنانة ليلى بنحليمة مواضيعها من مرجعيات ومصادر معرفية مختلفة يتداخل فيها الفكري والثقافي والاجتماعي، فتارة نجدها تستند إلى معالجة الواقع بحس تشخيصي انطباعي، وتارة أخرى نجدها تميل نحو الإلغاز ومخاطبة الباطن على منوال السيرياليين الجدد، لكن بأسلوبها وطريقتها الخاصة التي تتلاءم مع رؤيتها. تقول الفنانة شارحة ومعللة: “أعمالي تهتم باللاوعي الذي يشكل بالنسبة إلي مصدر العديد من القدرات التي لا نستعملها. اللاوعي يمكننا من اكتشاف الماضي المنسي، وعيش الحاضر الآخذ إلى زوال، ورؤية المستقبل بعيون كلها أمل”.

في عمق لوحاتها حركات مبصومة وآثار لونية استعملت فيها الأصباغ والأحبار والمساحيق اللونية Pigments التي تتعايش على القماش والورق المقوى، سنائدها المفضلة التي تتراقص في ساحتها أجساد وأطياف ميثولوجية غير مألوفة، وكأنها آتية من زمان آخر غير زماننا. هذه الأجساد مصاغة بألوان رمزية واصطلاحية لا تبحث في تفاصيل النماذج المرسومة قدر ما تعطي الانطباع بكونها قديمة وعريقة تنتمي لعصور وحضارات غابرة، يتضح ذلك من خلال أسلوب التلوين المستعمل القائم بالأساس على نوع من “التعتيق الصباغي”، إن صح التعبير.
إن جل الأجساد البادية في لوحاتها ذات هوية نسائية موشاة برموز شعبية ونقوش قديمة، الأمر الذي يبرز اهتمام الفنانة بالمرأة وبقضاياها المتعددة التي تسعى إلى التعبير عنها بتعبيرية لونية مفعمة بمعان ومفاهيم كثيرة تدافع عن الأنوثة وتدعو إلى تعزيز المكاسب الاجتماعية التي ربحتها المرأة، كما في قولها: “المرأة عندي ترمز إلى الفضيلة والتحرر، وبعد رفعها للقيود التي تفرضها نظرة المجتمع إليها، تكون قد تجاوزت الحواجز التي تمنعها من المضي قدما في الحياة، ونيل مكانتها التي تستحقها عن جدارة”. من ثم، كرست بعض اهتماماتها الفنية لإنصاف المرأة )رمز الخصوبة والغزارة والعطاء والحب والوصل)، وذلك برسم أجساد لنسوة يظهرن في لوحاتها بأسلوب تلويني رمزي متحوِل يتماهى مع قلقها ورسائلها التي تعبر عنها من خلال أسلوبها الصباغي الذي لا يخلو من تقاطيع وخطوط واستدارات ومنعرجات الجسد، باستعمال ألوان اصطلاحية تضم الأحمر والبرتقالي والأزرق والأصفر، إلى جانب الرماديات الملونة Gris colorés، وهي كثيرة.

تصاوير غرائبية

تبدو العديد من لوحات الفنانة ليلى بنحليمة مفعمة بالوجوه والبورتريهات والحيوانات وفضاءات السماء والبحر والأرض.. وغير ذلك من العناصر البيئية التي تتآلف لديها بشكل غرائبي مثير يعلو على الواقع ويتجاوزه.. يبحث في بواطن الأمر لتقديم مشاهد مرئية غير مألوفة تجعل المشاهد مشدوداً نحو تكويناتها الغريبة التي لا يمكن مشاهدتها سوى في الخيال والعوالم فوق طبيعية. بعبارة أخرى، فهي ترسم بخيال متدفق يظهر فيه الجسد الآدمي مجردا من هيئته المألوفة حيث تلبسه أشكالا أخرى غريبة مختفية داخل خيالات ملونة تعبر عن نوع من العجائبية المتجهة نحو العوالم اللاواقعية.

بهذه الاشتغالات التصويرية والسرديات الغرائبية التي تتأرجح بين التشخيص والتجريد، تشتغل الفنانة ليلى بنحليمة على تيمات ومواضيع ترسم في الحقيقة مشاعرها الداخلية وعالمها الجواني.. عالم مفعم بإحساسات ذاتية مرتبطة بعوالم ميتافيزيقية وسماوية حيث المرأة / العنصر البشري، والشجرة / العنصر النباتي، والأحصنة والقطط والطيور/ العناصر الحيوانية، في حوارات كونية تتجدد مع كل تجربة صباغية.
أعمالها، التي توثق لهذه المرحلة، نابعة من خيال خصب، وهي ضرب من التصوير والتجسيد الغرائبي الذي يرسم جانبا من قراراتها ومشاعرها كفنانة وكإنسانة، بل يعكس تصورها للعالم في حدود ماضيه وراهنه وقادمه..
وتظهر الفنانة ليلى بنحليمة في العديد من الأحيان مندمجة مع لوحاتها التي تشعرها بكينونتها الموسومة برهافة إبداعية مخصوصة بالذاتية، الأمر الذي يجعلها أكثر التصاقا بتجربتها الخاصة التي تريدها مستقلة وبعيدة عن أي تأثير سلبي. ولعل هذا الوعي بأهمية هذه الاستقلالية يعتبر عاملا مهما لدعم التجربة ضمانا لاستمرارية العملية الإبداعية وإنتاج المزيد من اللوحات والأعمال الفنية.
لذلك، تظل لوحات الفنانة تطالعنا بسعيها المتواصل لسبر أغوار الذاكرة الإنسانية المشتركة والتعبير عنها بمفردات تشكيلية لها مدلولات متنوعة مفتوحة على المزيد من القراءات والتأويلات.
من هذه الزاوية، تتراءى أمام المتلقي لأعمالها الفنية مجموعة من المشاهد والسرديات البصرية التي تحكي أكثر مما تقول.
وتظل الفنانة ليلى بنحليمة تمثل بهذا المنجز الصباغي المتنوع، موضوعا وأسلوبا، اسما منتجا في المشهد التشكيلي المغربي في أبعاده الغرائبية والرمزية، وهي تواصل إبداعاتها لإقامة المزيد من المعارض التشكيلية التي تفتح لها مساحات إضافية للحوار والنقاش مع جمهور الفن داخل المغرب وخارجه والتي تتيح الفرصة لمشاهدة جديد إبداعاتها عقب محطات سابقة تميزت بالفاعلية والتفاعل المتبادل بين الفنان والمتلقي.. وبين المتلقي والفنان..

 بقلم: إبراهيم الحَيْسن

Related posts

Top