لم تمنع مهنة الطب المغربيّ الدكتور بوشعيب المسعودي من مزاولة عشقه للسينما عموما وللفيلم الوثائقي خصوصا، فهو يدير مهرجانا متخصصا في هذا النوع من الأفلام منذ ثماني سنوات، كما أصدر كتابا بعنوان «الوثائقي: أصل السينما»، وأنجز فيلما وثائقيا موسوما بـ«أسير الألم» حاز جائزتين رفيعتين، إحداهما في المهرجان الدولي للفيلم القصير في مدينة طنجة سنة 2014، والثانية في المهرجان الدولي للفيلم في دلهي، الهند سنة 2015.
حول هذا تجربته الإبداعية، أجري معه الحوار التالي:
> ما منبع هذا الاهتمام لديك بالفيلم الوثائقي؟
■ اهتمامي بالفيلم الوثائقي وُلِد سنين طويلة قبل تأسيس «جمعية المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في خريبكة، المغرب». كان الاهتمام منذ الصغر، بدأ بالأفلام العربية والهندية والصينية وبعد ذلك الأفلام الفرنسية والأمريكية…. ثم أفلام مختارة من نوع خاص أولها الوثائقي. وكان تأسيس هذه الجمعية مع مجموعة من الأصدقاء: الحبيب ناصري، حسن مجتهد، المهتمان بالسينما، حول كؤوس من القهوة المنعشة، وبعد حوار بناء وعميق حول أهمية الفيلم الوثائقي الذي يعتبر، لا أقول مهمشا، بل مندثرا هنا وهناك وسط الأفلام الروائية في جل المهرجانات المغربية. تحتضن خريبكة أقدم مهرجان «مهرجان السينما الأفريقية»، وهو يؤدي دوره في إبراز الإشعاع السينمائي الأفريقي بصفة عامة والمغربي بصفة خاصة. ولمسايرة الإشعاع الثقافي السينمائي في مدينة خريبكة والمشي جنبا إلى جنب مع «مهرجان السينما الأفريقية» العريق، تقرر إحداث «المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في خريبكة، المغرب» وأهم خصوصياته الاهتمام بالتعريف بالفيلم الوثائقي في كل جوانبه وأنواعه والمساهمة في إغناء ثقافة الصورة بصفة عامة والفيلم الوثائقي بصفة خاصة بين الشباب والمهتمين بالسينما في مدينة خريبكة، في جهة بني ملال خنيفرة وفي المملكة المغربية عموما.
والفيلم الوثائقي، كما يعلم الجميع، نوع من أنواع الأفلام ويسمى كذلك الفيلم التسجيلي، يصور «الواقع» ويبين الحقيقة، يعرفنا بماضينا ويصور لنا حاضرنا، ويمكن أن يغير لنا تصوراتنا لتغيير مستقبلنا. ولو أن كل فيلم كيفما كان نوعه، فيه من الوثائقي نصيب. وهنا لابد من إثارة دور المخرج ولمسته الإبداعية الخلاقة التي تجعل من الفيلم ومن تتابع الصور كتابا يقرأ بلغة بسيطة وسهلة على الجميع، وهي لغة الصورة التي غزت العالم في كل مكوناته.
> كيف استطعت الجمع بين الطب والفن السينمائي في جانبه الوثائقي؟ وفيمَ يؤثر أحدهما على الآخر؟
■ أنا أقول بصوت مرتفع: إنني طبيب أولا وقبل كل شيء، وثانيا مهتم بالسينما وخاصة بالفيلم الوثائقي. إن الطب علم وصناعة وإبداع، عشقت الطب في ابن سينا وابن رشد والرازي والزهراوي وابن النفيس وغيرهم من أطباء العرب القدامى (لقد كان أبي رحمه الله فقيها وعالما وإماما يملك مكتبة، تحمل بين أحضانها مؤلفات كبيرة ومتنوعة تجمع بين الطب والعلوم الإنسانية والشعر والقصة وكل الفنون). وكما تعلم أن في ذلك الوقت والزمان لم تكن هناك سوى الكتب التي نستطيع أن نغرف منها كل شيء. وقراءة القصص أدت إلى انفتاح الذاكرة على خيال واسع وشاسع يسوده أبطال مختلطة شخوصهم بين الواقع والخيال. فهل تعلم أنني قرأت قصصا كثيرة (من بينها العنترية من سبعة مجلدات والأزلية من أربعة مجلدات …) وهذا ما شجعني على حب الصورة بصفة عامة من فوتوغرافيا إلى سينما عامة إلى سينما وثائقية. كما قلت إن الطب يعتمد على الصورة الثابتة والمتحركة. فعلوم الأحياء والتشريح والبيولوجيا كلها صور في صور. مثال ذلك صور القلب النابض والصور المجهرية للدم وصور الجنين في بطن أمه… كلها تعتمد على الصورة، بجانب ذلك لم تفارقني آلة التصوير منذ التعليم الإعدادي فكنت مصور القسم والأصدقاء والأهل والمناسبات. بدأت التصوير منذ الأبيض والأسود وعايشت الانتقال إلى الألوان.
وشرحي مع حواري للمريض يعتمد على الصورة، فهي أحسن من ألف كلمة. إذن، فالطب والسينما وخاصة الفيلم الوثائقي عالمان متقاطعان ومتوازيان، وكلاهما يحظى بتقدم حضاري وتقني وعلمي قوي. فالفيلم الوثائقي بدأ علميا كالصور المجهرية لدم الإنسان، كحياة الجنين ومراحل تطوره في رحم الأم… وكما حظيت السينما بأحسن الآلات وأحدث التقنيات، حظي الطب بالاهتمام نفسه، وتطورت آلات التصوير الفوتوغرافي والمغناطيسي والفوق – صوتي… أظن أن كلاهما لا يستغني عن الآخر.
> أنجزت فيلما وثائقيا بعنوان «أسير الألم» ما هي الرسالة التي يحملها؟ وأي أصداء خلفها عرضه؟
■ أذكر أنه قبل إنجاز الفيلم الوثائقي «أسير الألم» قمت بكتابة كتاب «الوثائقي: أصل السينما» الذي جاء بعد هذه التجربة الجميلة التي تخص عالم الفيلم الوثائقي. والكتاب تجربة صغيرة، بعد تكليفي بإدارة المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في خريبكة في المغرب، تشتمل على مرحلة النبش والبحث عن مقالات تهم الفيلم الوثائقي وتاريخه وتعريفه وسبل إنتاجه. والكتاب يشمل عدة محاور: تاريخ الفيلم الوثائقي، تعريف الفيلم الوثائقي، أنواع الفيلم الوثائقي، الفرق بينه وبين الريبورتاج، وتحدثت عن القنوات والمهرجانات المهتمة بالفيلم الوثائقي، خاصة المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في خريبكة، المغرب أنموذجا.
بالنسبة لفيلم «أسير الألم» هو خلاصة تجربتي طبيبا مختصا في أمراض الروماتيزم ومهتما بالفيلم الوثائقي بوصفي مديرا للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في خريبكة، المغرب. استعنت بفريق محترف، استفدت منه. والفيلم يحكي مأساة يعيشها جل العائلات التي يعيش بين أحضانها مريض مزمن، وما يدور من آلام ومشاكل تخص المريض والمحيطين به: إنها حكاية عبد السلام، المريض بالروماتويد المفصلي، وهو مرض مزمن، أدى به إلى الإعاقة وإلى السجن داخل بيته. والفيلم يحتوي على آراء بعض المختصين في أمراض الروماتيزم من المغرب ومن خارج المغرب. وهو في الوقت نفسه رسالة أمل لكل المرضى المزمنين ولعائلاتهم، كما يحمل رسالة طبية للإسراع بزيارة الطبيب المختص للكشف والعلاج المبكرين ولتفادي التشوهات واعوجاج المفاصل والإعاقة. إنه فيلم طبي مبسط موجه للكل. وقد حصل على جائزة أحسن موضوع في المهرجان الدولي للفيلم القصير في طنجة، المغرب في دورته السابعة (2014) وحصل على جائزة أحسن فيلم وثائقي في المهرجان الدولي للفيلم في دلهي، الهند (2015).
> لو طلبنا منك رأيك في راهن الفن السابع في المغرب، فماذا تقول؟
■ بالنسبة لي كمهتم بالسينما، هناك تحول كبير في هذا الميدان، فالإنتاج الكمي يزداد سنة بعد سنة، بطبيعة الحال هناك أفلام توفر المتعة للمشاهدين أنجزت من طرف مخرجين مغاربة معروفين وأخرى من طرف شباب جدد أخرجوا أفلاما تدفع إلى النقاش وإلى التفكير في مواضيع مختلفة تخص المجتمع المغربي. وجاء ذلك نتيجة تكاثر عدد المهتمين بالسينما، خاصة المخرجين، بالإضافة إلى الدعم الذي يمنحه صندوق الدعم السينمائي التابع لوزارة الاتصال لعدد من الأفلام والسيناريوهات. هناك عاملان آخران مهمان ساعدا في ارتفاع الإنتاج والإخراج أولهما هو كثرة المهرجانات المحتفل بها في المغرب، إذ أن في كل مدينة من مدن المغرب مهرجانا أو أكثر من المهرجانات المتفرقة والمتنوعة والمتقاطعة في ثيماتها وفي نوعية أفلامها، وهذه المهرجانات منضوية تحت نوادٍ أو جمعيات سينمائية أغلبها عضو في الجامعة الوطنية للأندية السينمائية التي لعبت دورا مهما في صناعة السينما في المغرب. وهذه النوادي والجمعيات ساهمت في خلق نوع مهم من الأفلام وهي أفلام الهواة (التي يعتبر بعضها أحسن من بعض أفلام المحترفين) وفي نوع خاص من المخرجين: المخرجون الهواة الذين ساهموا في خلق ثقافة السينما في مدن وقرى داخل المغرب. العامل الثاني وهو النقاد السينمائيون، يقول البعض إن النقاد والنقد كان موجودا عندما كان الإنتاج قليلا، ولكن النقد بدأ يرسي ركائزه العلمية عبر المدارس السينمائية القليلة وعبر جمعية نقاد السينما بالمغرب ولو أن العدد المنضوي تحتها قليل ولكنهم يقومون بندوات وورشات أعمال وبرنامج مسطرة طوال السنة. كما أن هناك كتابا وصحافيين يكتبون عن السينما.
الواقع أن الكم موجود، فهناك ارتفاع في إنتاج الأفلام. والمهتمون بالسينما يتكاثرون. ولكن الجودة نسبية، فالمغرب معروف بسينماه وبمهرجاناته وبتكريمات داخل وخارج الوطن. ولكن ليست هناك أفلام (إلا القليل القليل) يمكن أن نقول إنها تمثل السينما المغربية في العالم وفي المهرجانات الدولية المعروفة عالميا والمصنفة ثقافيا وتجاريا.
> ما خصوصيات الدورة المقبلة من مهرجان خريبكة للفيلم الوثائقي، وجديدها؟
■ نحن الآن في صياغة الدورة الثامنة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في خريبكة، المغرب. لقد أصبح عمر المهرجان ثماني سنوات، ولعب منذ ولادته دورا مهما في التعريف بسينما الفيلم الوثائقي وفي تأسيس عدة مهرجانات داخل و خارج المغرب، وساهم في نشر ثقافة الفيلم الوثائقي عبر عرض عدة أفلام وثائقية شاركت في المسابقة الرسمية للمحترفين أو مسابقة الهواة أو عبر البانوراما أو عبر ورشات ودورات تكوينية حول الفيلم الوثائقي. واحتفل كذلك بعدة دول عبر ضيوف الشرف وعبر الندوات التي تصب تخصيصا في السينما الوثائقية. ومن جديد هذه الدورة: أنها لم تحظ باهتمام لجنة دعم المهرجانات رغم تقديمنا لمشروع أولي متميز وتناقشنا مع أعضائها بكل مسؤولية. وكان انطباعنا حسنا بعد المناقشة والحوار مع شخصيات نعرفهم ونعرف مقامهم وأغلبهم يعرفوننا ويعرفون المهرجان وطبيعة معاملته الاحترافية والمسؤولية في جو حميمي تملأه روح الثقافة وروح الفن والإبداع، فسؤالي إليهم لماذا التهميش؟ وعدم دعم الإبداع؟
وبما أن إقليم خريبكة تحول إلى جهة جديدة هي جهة بني ملال ـ خنيفرة، فإن من بين أهداف المهرجان الانفتاح وتوسيع ثقافة الفيلم الوثائقي خارج مدينة خريبكة إلى نواحيها من مدن وقرى. لقد بدأ انفتاحنا منذ سنوات على بني ملال مع «ماستر» السينما والآداب في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وشاركناهم في مهرجاننا وتشاركنا معهم ثقافة السينما بصفة عامة وثقافة الوثائقي بصفة خاصة. واهتمت الجهة بالثقافة عبر لجنة من الأعضاء همهم الثقافي كبير، تقاسمت مع جمعية المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي في خريبكة هذا الهم. وسارت في الاتجاه نفسه، وكان قرار الجمعية إدماج عدد من العروض الفيلمية الوثائقية بحضور مخرجيها عبر تراب جهة بني ملال – خنيفرة وفي أغلب مدنها.
وقد وصلنا عدد كبير من الأفلام الوثائقية، وعند المشاهدة الشخصية الأولية قبل الانتقاء، تبين أن هناك عددا مهما من الأفلام من الناحية التقنية والفنية والجودة في المواضيع. فنتمنى أن يكون هناك دعم كاف لتقديم عدد كبير من الأفلام. ندوة هذه السنة تهتم بموضوع حساس، وستستضيف شخصيات مهمة وهناك عدة فقرات، سيعلن عنها لاحقا، مهمة في هذه الدورة من أنشطة موازية وضيوف شرف…
> الطاهر الطويل *كاتب صحافي