حصيللة 2017

البيان تحتفي بذكراها الخامسة والأربعين

كان الحدث الأبرز في مجال الإعلام والاتصال خلال سنة 2017 التي ودعناها، تخليد صحافة «البيان» ومعها المشهد الإعلامي الوطني للذكرى الخامسة والأربعين لصدور أول عدد من جريدتي «البيان» الناطقتين باللغتين العربية والفرنسية في نونبر 1974، وكان الحدث مناسبة لاستحضار زمن التأسيس، الذي تميز بالنضال والكفاح من أجل حرية الرأي والتعبير، وإرساء نظام ديمقراطي، والانتصار للقيم الإنسانية النبيلية.. مؤسسة «البيان» أقامت حفلا وطنيا كبيرا بالرباط، بحضور نخبة من الفعاليات السياسية والاقتصادية والمجتمعية الوطنية، وعدد من الضيوف من صحافيين ومثقفين ومبدعين وفنانين.. كما خصت جريدتا البيان وبيان اليوم عدديهما بكامليهما لتخليد الذكرى، شارك فيهما مجموعة من الأقلام الوطنية المعروفة في المشهد الإعلامي والسياسي والفكري بكتابات وشهادات وذكريات وحكايات.. من ضمن تلك المساهمات اخترنا اليوم شهادة للأستاذ جمال الدين الناجي المنشورة باللغة الفرنسية في العدد الخاص للبيان، بعد أن تفضل بترجمتها مشكورا الأستاذ الزميل محمد مستعد. فيما يلي النص:

مشاهد وذكريات عن صحيفة “البيان” المقاومة

المشهد الأول في 1965 بالدار البيضاء

داخل المقر الدائم للجرائد الناطقة باسم التقدم والاشتراكية، كانت تسمع أصوات تلاميذ الثانويات الثائرين خلال أحداث مارس 1965 وهم يهتفون معبرين عن تطلعاتهم المشروعة إلى العلم والرقي عبر بوابة الوعي والمعرفة. وكان من الطبيعي أن يعطي ذلك الجيل، وهو في ريعان شبابه وتشكله، مكانة خاصة لصحف حزب التحرير والاشتراكية (الحزب الشيوعي سابقا وحزب التقدم والاشتراكية حاليا). في ذلك الوقت، كان نظامنا الخاص بتحديد المواقع أو ما يسمى اليوم بـ GPS يعرف عنوان شارع “لاجيروند” حيث توجد هاته الصحف وعنوان صحف الاتحاد المغربي للشغل في زنقة “لاغارون” أكثر مما كان يعرف عنوان زنقة سميحة حيث توجد صحافة “ماروك سوار”. لقد كان نظامنا لتحديد المواقع انتقائيا وطائفيا فعلا! عندما كنا آنذاك شبانا ندرس في ثانوية مولاي عبد الله. داخل هذه الثانوية، كانت الجرائد التي سبقت “البيان” إلى الصدور توزع بشكل سري وهي: “الكفاح الوطني” و”المكافح”. وكان البعض منا يوزعها تحت جلبابه كما كان يفعل حسن الزاوي (الذي مات في ظروف غامضة وهو في مقتبل العمر ضحية موجة “الوهابية” التي كانت قد بدأت تضرب منذ ذلك التاريخ!). وكان يوزعها أيضا رجل كان، بالنسبة لنا، أيقونة ورمزا متميزا وسط أساتذتنا وهو المرحوم عبد المجيد ذويب (توفي في شتنبر 2014) الذي كثيرا ما كان يتم توقيف دروسه بسبب الاعتقالات الكثيرة والمتعددة التي كان يتعرض لها من قبل الشرطة بحيث كان يعتقل أحيانا مباشرة داخل القسم الدراسي!…
وفي بعض الأوقات، كانت هاته الجرائد تصلنا أيضا بواسطة حسن الزاوي فور توصله بها، بشكل سري أمام الثانوية. وكانت تسلم له من قبل عميدي في مهنة الصحافة وأول رئيس تحرير اشتغلت معه لاحقا في “مغرب أنفورماسوين” Maghreb Information التي كانت هي الجريدة الناطقة باسم نقابة الاتحاد المغربي للشغل: إنه عزيزي المحترم مصطفى اليزناسني. لقد كانت ذكريات يميزها ويطبعها القمع المنهجي الذي كانت تعيشه آنذاك حرية التعبير… الحزبية في بلادي.

المشهد الثاني في 1974

كان شقيقي الأصغر – واسمه محمد رغم أن العادة في المغرب كانت تقضي بأن يخصص هذا الاسم للولد البكر – وهو أنا بالمناسبة! – وكان محمد يعشق، وهو في سن مبكرة، العمل في مجال الطباعة وخاض أول تجربة له في مطابع “Imprigema” التي كنت أعمل بها أنا أيضا، إلا أنني شعرت بأن واحدا منا كان عليه أن يغادر هاته المؤسسة لأنني كنت متخوفا من أن يتعرض أخي لشكل من أشكال “التهميش” بسبب ما قد يقال بأنني أنا شقيقه الصحفي الأكبر الذي توسطت له للعمل هنا. ولهذا ذهبت إلى مطابع جريدة “البيان” (التي كانت في بداياتها) وطلبت بكل بساطة أن ألتقي بـ “سي علي”. فاستقبلني على الفور ووافق بسرعة على تشغيل أخي الذي كان ما يزال متدربا في مهنة التصحيح ولكنه كان قد بدأ يخربش أولى قصائده في شعر الزجل. وقد نبهني “السي علي” بشكل مفاجئ وصادق، وأسر إلي قائلا: “يجب أن تعرف أننا صحافة مناضلة لا نعمل دائما في ظروف من الاستقرار، والراحة، والأمان…”؛ وهكذا وبفضل “سي علي” استطاع محمد شاعرنا الصغير أن ينطلق في فضائه الحيوي والبيولوجي الذي كان يحبه وهو عالم الصحافة والطباعة والتوزيع وذلك إلى أن بلغ، مؤخرا، سن التقاعد بعد أن استطاع أن ينشر على حسابه! عددا من المجموعات الشعرية.

المشهد الثالث في 1976

قرر سي عبد الجليل فنجيرو وهو الوريث الأمين والدقيق للمهنية ولعشق الصحافة الذي كان يميز مؤسس وكالة المغرب العربي (المرحوم المهدي بنونة)، قرر أن يأخذ المبادرة ويكلفني (وكنت آنذاك صحفيا يؤدي الخدمة المدنية في الوكالة) بإصدار أول مجلة نصف شهرية متخصصة في الأخبار الاقتصادية تحمل اسم Economap “إكونوماب”. وكان تخصصا جديدا آنذاك بالنسبة للصحف الوطنية التي كانت تهيمن عليها بشكل كبير المنابر السياسة الحزبية. وكان من الضروري إطلاق حملة تسويقية حتى يجد هذا المنتوج الصحفي “الغريب غرابة كائن فضائي” مكانة له في الأكشاك وفي غرف الأخبار وكذا في مكاتب كبار الفاعلين الاقتصاديين. فبدأت في نشر إعلانات إشهارية (مؤدى عنها بطبيعة الحال!) في جميع الصحف الصادرة آنذاك للإعلان عن ميلاد هذا المنبر الصحفي الجديد تماما. ولهذا الغرض، ذهبت إلى مكتب “سي جمالي” الذي كان يتولى مسؤولية مكتب جريدة “البيان” (الموجود في زقاق صغير يؤدي إلى شارع “بليز باسكال” وهو زقاق كان بجوار سينما “النصر” (التي كانت تتميز بأناقتها آنذاك!). وقد ذهبت وأنا أحمل إعلاناتي لأتفاوض مع “البيان” حول شروط نشرها. لكن “سي جمالي” تفاجأ لطلبي واعترف لي بأن “البيان” لم تفكر في وضع جدول بأسعار الإشهار لديها سواء المنشورة في أعلى صفحتها الرئيسية (حيث كنت أريد وضع الإشهار) أو في بقية صفحاتها المعدودة وكانت 4 أو 6 صفحات وذلك لسبب بسيط هو أنه لم يسبق لها أن استفادت من نشر أي إشهار. ولهذا اضطر جمالي إلى الاتصال هاتفيا بـ “سي علي” الذي سألني عن السعر الذي طلبته مني جريدة “لوبينيون” L’opinion ” (التي كان لها قراء كثيرون في ذلك الوقت) لنشر إشهاري في أعلى صفحتها الأولى. فأجبته قائلا: “800 درهم”. فاقترح علي، بعد صمت قصير وبكرامة ولطف أب مؤدب، أن أودي لجريدة “البيان” 500 درهم فقط. وهكذا ستصبح وكالة المغرب العربي للأنباء هي أول من ينشر إشهارا في تاريخ جريدة البيان.

المشهد الرابع في أكتوبر 1987

في سوق خميس الزمامرة، أكبر الأسواق القروية في المغرب، كنا على موعد مع إطلاق حملة تحسيسية للتلقيح هدفها رفع مستوى الوعي لدى سكان إقليم آسفي الذين كانوا أقل المستفيدين على الصعيد الوطني من التلقيح ضد الأمراض الخطيرة التي تهدد الأطفال (كانت نسبة استفادتهم تقل عن 28٪ مقابل نسبة 42٪ على الصعيد الوطني!). وكنت أشارك في هذه الرحلة التضامنية بمعية فرق المنشطين ورجال التواصل العاملين بوزارة الصحة، وجميع رؤساء تحرير الصحف الوطنية وبعض المراسلين الأجانب. وكان بجانبي زميلي نذير يعتة – الراحل الكبير والمقاوم المهذب – وذلك إلى جانب زملاء آخرين. وأذكر أنني كنت أتبادل معه أطراف الحديث حول ذكرياتنا وعاداتنا الخاصة بالذهاب إلى الأسواق الشعبية، وكنا نناقش كتاب “جون – فرانسوا تروان” الشهير حول “الأسواق المغربية”… وخلال النقاش، اعترف لنا أحد رؤساء التحرير الذي كان يعمل في صحيفة يومية واسعة الانتشار آنذاك، بأنه كان ذلك اليوم سيضع “لأول مرة”! قدمه في سوق شعبي. فانفجرنا أنا ونذير من الضحك لأننا لم نستطع أن نتمالك نفسينا من التهكم على “قانون التناقض” الذي أحسسنا به – لأننا كنا نتقاسم ثقافة سياسية متقاربة – بحيث نبهنا هذا الزميل الذي فاجأنا باعترافه الصادق والساذج، نبهناه، بشكل ودي، إلى أنه كان يكتب كل يوم افتتاحية تتحدث عن الشعب وعن أحواله. كان بلا شك يملك خيالا استثنائيا يجعله غير مضطر إلى النزول إلى الواقع لإصلاح أحوال ومصائر الناس البسطاء من زبناء الأسواق الشعبية.. لأنه لم يكن في حاجة إلى ذلك! لقد كانت حقا لحظة ضحك جميل أسالت الدموع من عيني نذير الذي كان قلما صحفيا صادقا استطاع أن يترك بصمته الخاصة في “البيان” بدون أن يحتاج إلى وصاية أو وساطة من أبيه. كان علي يعته أبا ولكنه كان قبل كل شيء زعيما تاريخيا يمتلك، مثل باقي زعماء جيله، قلما سياسيا خطيرا وله أهميته. وفي نفس الوقت، كان داخل مقر جريدته لا يفارق لباسا أزرق يلبسه مثل عمال المطبعة لأنه كان يصر على أن يتابع عن قرب مصير تلك الكلمات التي خطها على الورق وهي تنتقل عبر جميع مراحل الطباعة: ابتداء من تحويلها إلى سطور من الرصاص، ثم تحويلها إلى عناوين، ثم “تبييضها”، ثم وضعها على لوحات متسخة من أجل توضيبها…
لقد كانت فعلا سنوات للرصاص بكل ما في الكلمة من معنى… سنوات تم خلالها، بشكل مؤلم، انتزاع حرية التعبير انتزاعا. وقد كان تعبيرا مقاوما ومنتجا ومؤثرا بشكل ملموس على واقع النخب والناس البسطاء. كانت الجريدة صوتا منسجما ومتفاعلا تماما مع الواقع ومع حقيقته بحيث أن كل من يحب هذا البلد وشعبه يتمنى أن يرى فيها “بيانا” ينبغي الاحتفال به كاختيار أساسي بالنسبة لكل منبر للتعبير وبمناسبة كل عيد ميلاد.
17 نونبر 2017

ترجمة: محمد مستعد

***

هذا بيانكم وبرهانكم لعلنا في الخبر صادقين

45 سنة مما تحمله من أرقام تجاوزت كل قدراتها وطاقتها. وحققت نجاحات إعلامية.. إخبارية.. ثقافية.. فنية.. بيئية … قطعت أربعة عقود مرصعة بأنبل وأعظم العطاءات والإنجازات والإبداعات الفكرية. بيان اليوم لا تلوي إلا على حب قرائها فمن حق الجريدة أن تفتخر بأطرها العملاقة، بهوياتها، بروادها ومناضليها وكذلك بإنتاجاتهم وإبداعاتهم الخالدة.
كما هي، خزانة الأحداث وشمعة الأخبار تسلط الضوء على كل ما يدور حولنا. منبع التعبير عن تطلعات المواطنات والمواطنين، مرآة تعكس آمالهم وآلامهم. حبرها يتكلم باسمهم ويرفع أصواتهم عاليا على مسامع الجميع للدفاع عن مصالحهم وخدمة للوطن.
منبر قوي للعديد من المفكرين والأكاديميين والفنانين مع ظلها الذي لا حدود له.. أدت رسالتها بأمانة وصدق وبتضحية نجومها المتوارية والقائمة والصاعدة. كما واكبت وما زالت كل الأحداث الوطنية بصوت وفي وناجع. دائما تجسد البحر الذي ننهل من علمه وفقهه وأخلاقه، والسراج الذي يضيء الطريق.
بيان اليوم، لسان حزب التقدم والاشتراكية كانت من أولى الجرائد التي تحتفي باليوم العالمي للمرأة، بل كانت تخصص صفحة أسبوعية تحمل اسم «بيان المرأة».
ناضلت وترافعت من أجل تحقيق المساواة وإصلاح قانون الأحوال الشخصية، وتمكنت من فتح نقاش هادئ حول العديد من القضايا، كإصلاح القانون الجنائي، والعدل، والمساواة في نظام المواريث والتمثيلية النسائية عبر المطالبة بتبني اللائحة الوطنية للنساء في الانتخابات التشريعية..
 كان فولتير يؤكد أن الصحافة هي آلة يستحيل كسرها وستعمل على هدم العالم القديم حتى يستنى لها أن تنشأ عالماً جديداً… أما السلطان عبد الحميد الثاني فقال في أحد تصريحاته بعد خلعه عن عرشه بالحرف الواحد «لو عدت إلى يلدز لوضعت محرري الجرائد كلهم في أتون كبريت».. وقبله قال القيصر نقولا الثان: «جميل أنت أيها القلم ولكنك أقبح من الشيطان في مملكتي…». وفي الخمسينيات عبر دياز رئيس جمهورية المكسيك عن حنقه على الصحافة قائلاً: «أود أن أكون صاحب معامل الورق والحبر لأحرقهما..» ‏
كثير من الأوساط تخشى الصحافة وتعتبرها لغة الفضائح والتعرية وتسليط الأضواء، أما من كان يعمل بأمانة وإخلاص فيحب الصحافة ويرحب بها ويتعاون معها، والمواطن الذي هو صاحب المصلحة الحقيقية في البحث عن الحقيقة يجد الصحافة موجودة أينما ذهب في الأرض، في المدن، في البرلمان، في الوزارات…
يقول الكاتب البريطاني شريدان: «خير لنا أن نكون من دون برلمان من أن نكون بلا حرية صحافة، الأفضل أن نحرم من المسؤولية الوزارية ومن الحرية الشخصية ومن حق التصويت على الضرائب على أن نحرم من حرية الصحافة، ذلك أنه يمكن لهذه الحرية وحدها إن عاجلاً أو آجلاً أن تعيد كل الحريات الأخرى..» ‏
وتظل مهنة الصحفي مهنة شاقة تتطلب منه أن يدخل من النافذة وإذا لم يستطع فمن ثقب الباب وإذا لم يتمكن فليتسلق الجدران وليقفز على الأسطح نزولا لقداسة الخبر.
وتبقى صحيفة بيان اليوم بنضالاتها الإعلامية أقوى وأرقى من أي شهادة أو تكريم. تستحق التقدير والتنويه ويستحق مبدعوها ومنتجوها الشكر والثناء.. على أقل اعتراف.
هدا بيانكم وبرهانكم لعلنا في الخبر صادقين.

> بقلم: حسناء شهابي

Related posts

Top