مثلت زيارة البابا فرنسيس، رئيس الكنيسة الكاثوليكية، للمغرب، والنجاح الجماهيري والإعلامي الذي ميزها، مناسبة لحضور المملكة في المشهد الإعلامي الكوني، وقد تابع ملايين الناس عبر العالم التغطيات التلفزيونية لهذا الحدث، وخصوصا خطاب البابا وخطاب جلالة الملك محمد السادس. وهذا البعد وحده كاف لتأكيد قوة هذه الزيارة ودلالتها الدبلوماسية والسياسية والرمزية، ونجاحها الكبير.
من جهة ثانية، زيارة البابا للمغرب ليست مثل باقي زياراته لبلدان عربية أخرى، ذلك أن الرمزية هنا أكبر وأكثر عمقا وقوة.
المملكة لديها تاريخ عريق في التواصل مع الكنيسة، وقد استحضرت كل الكلمات في حفل الرباط أول أمس هذه الجوانب، كما أن المغرب يجسد منذ قرون المعنى الحقيقي لتعايش أتباع ديانات مختلفة وتضامنهم، خصوصا بين المسلمين واليهود، وهذا متأصل في تاريخه الاجتماعي وطبيعة واقعه الثقافي، وأيضا في قوانينه ودستوره، وفِي منظومته المؤسساتية وسلوكه الديني.
ولكل ما سبق، اللقاء بين جلالة الملك، باعتباره أمير المؤمنين، وبابا الكنيسة الكاثوليكية، هو لقاء مفعم بالرمزية والدلالة، ويفتح أفقا لحوار إسلامي مسيحي منتج.
زيارة رئيس المؤسسة الدينية لمسيحيي العالم إلى المغرب تعتبر، في السياق نفسه، إشادة وتحية للمملكة ولجهودها المتعددة من أجل السلام عبر العالم، ولسياستها في مجال الهجرة واستقبال المهاجرين على أرضها، وأيضا دعما للحوار والشراكة والتعاون بين المملكة ودول العالم المسيحي في أوروبا وغيرها.
وعلاوة على هذا البعد الثنائي الذي جسدته الزيارة البابوية، فإن توقيع البابا فرنسيس جنبا إلى جنب مع جلالة الملك على”نداء القدس”في الرباط، يعتبر من أقوى لحظات الزيارة.
“نداء القدس”، الذي يروم النهوض بالطابع الخاص للقدس كمدينة متعددة الأديان، ويقر بوحدة المدينة المقدسة وحرمتها، يمثل وثيقة في غاية الأهمية في هذه المرحلة العصيبة من النضال الوطني الفلسطيني، ويجب استثمار دلالتها السياسية والدبلوماسية عربيا وإسلاميا ودوليا لمواجهة المخاطر والتكالبات المتربصة بالقضية الفلسطينية.
“نداء القدس”الموقع عليه في العاصمة المغربية بين رئيس لجنة القدس ورئيس الكنيسة المسيحية هو جواب قوي على موقف الرئيس الأمريكي ترامب وقراراته في حق القدس، وهو دعوة لصيانة هوية القدس الشريف وطبيعتها، وانتصار لحق كل أتباع الديانات التوحيدية في الولوج إلى أماكن عباداتهم وممارسة شعائرهم الدينية بحرية، ورفض لكل تغيير لمعالم القدس، على غرار ما يتعرض له المسجد الأقصى من تهويد…
“نداء القدس” جرى التوقيع عليه في الثلاثين من مارس، أي في ذكرى يوم الأرض، ووقع عليه جلالة الملك، بوصفه رئيس لجنة القدس، إلى جانب الشخصية الأولى في العالم المسيحي، بما تمثله من تأثير وحضور في الوسطين المؤسساتي والشعبي على الصعيد العالمي.
زيارة بابا الفاتيكان إلى المغرب، وفضلا عن بعدها الثنائي من خلال العلاقة مع المملكة وأيضا ما جسده التوقيع على “نداء القدس” والإشعاع الإعلامي الذي حظيت به على الصعيد الدولي، فهي أعادت التأكيد مرة أخرى على أن مثل هذه الأحداث الكونية الكبرى لا تنجح على صعيد المنطقة برمتها سوى في بلد مثل المغرب، تنظيما وجاهزية وإشعاعا واستقرارا وطمأنينة، وهذا كذلك جانب لا يخلو من أهمية ويتوقف عنده المراقبون الأجانب كثيرا ويحظى بالكثير من الاهتمام والاعتبار.
إن وثيقة “نداء القدس” وخطاب جلالة الملك وخطاب البابا فرنسيس هي بالفعل وثائق دبلوماسية مهمة وسينتج عنها ما بعدها، وهي التي تجعل زيارة رئيس الكنيسة الكاثوليكية لبلادنا غير عادية.
< محتات الرقاص