في ضيافة نظامي غنجوي

تحتفل أذربيجان ودول المعمور هذا العام بالذكرى 880 عام على ميلاد الشاعر والمفكر الأذربيجاني “نظامي غنجوي”، ولقد وقع الرئيس إلهام علييف مرسوما يعلن بمقتضاه 2021 عام “نظامي غنجوي” في جمهورية أذربيجان.
ويعود بي هذا الإعلان الى ذكريات إحدى زياراتي لأذربيجان وبالضبط إلى مدينة غنجة مسقط رأس الشاعر المحتفى به.
تعد جمهورية أذربيجان جزءً لا يتجزأ من العالم الإسلامي؛ ونالت الاعتراف والقبول في العالم الإسلامي كبلد يلتزم بالقيم الإسلامية، وتشتهر أذربيجان بالحفاظ على التراث الثقافي الإسلامي الذي انتشر على نطاق واسع في أراضي أذربيجان في القرنين السابع والثامن الميلاديين. حيث كانت جمهورية أذربيجان على مدى العصور الممتدة إحدى أهم المراكز الحضارية الإسلامية في العالم؛ وأقامت علاقات مثمرة مع العالم الإسلامي أساسه الاحترام وأسس التعاون.. وعلى طول العصور، ظلت أذربيجان مكانا تجتمع فيه الديانات والثقافات والحضارات المختلفة؛ وما انفكت تلعب دورا فعالا في حماية قيم التعددية الثقافية والتسامح والقيم الدينية المعنوية وتقوية الحوار بين الديانات والثقافات، والإسهام بدور ملحوظ في تطوير تلك القيم.
والشاعر “نظامي غنجوي” (كنجوي) هو عمود من أعمدة الشعر الأذربيجاني، وشاعر كبير من شعراء الشعر القصصي، وركن من أركان الأدب الوصفي الذي تتجلى فيه البراعة والمقدرة الفائقة على استعراض الجزئيات، وإضفاء الصور والاستعارات الجميلة عليها.
ولد المفكر والشاعر الأذربيجاني نظامي غنجوي في مدينة غنجة عام 1141 ميلادية وتوفي عام 1209 ميلادية؛ اسمه الكامل جمال الدين أبو محمد إلياس بن يوسف نظامي غنجوي، قضى معظم عمره في مسقط رأسه غنجة، وكان على علاقات وثيقة مع وجهاء أذربيجان، والملوك المحليين في ارزنكان وشروان ومراغة، ووجهاء الموصل الذين قدم لهم معظم أشعاره القصصية.
مسقط رأس شاعرنا نظامي مدينة غنجة (كنجه) الاذربيجانية تعد إحدى كبريات مدن جمهورية أذربيجان والتي تتميز بمناظر خلابة، وفيها صناعات مختلفة من قديم الزمان وتعتبر ملهمة للعلماء والشعراء، خرج منها الكثير من الشعراء والأدباء اشتهروا في العالم كله وتركوا بصمات لا تنسى. اتخذ الشاعر اسما مستعارا له بنسبة إلى المدينة التي ولد فيها، عاصر حكم السلاجقة، وتوفي والده وهو صغير، ثم ماتت أمه هي الأخرى والتي قامت على تربيته. وكان للشاعر أخ وحيد اسمه قوامي غنجوي.
يعد نظامي من الشعراء الأذربيجانيين المشهود لهم بالتميز والنبوغ والذين استطاعوا أن يبتدعوا نهجاً خاصاً بهم ويطوروه.
ومع أن جذور الشعر القصصي كانت ممتدة قبل هذا الأديب الكبير، إلا أنه الشاعر الوحيد الذي استطاع حتى نهاية القرن السادس الهجري أن يطور هذا النوع من الشعر، ويصل به إلى الحد الأعلى من الكمال، ويتفوق على أقرانه في هذا المجال.
تميز نظامي في شعره بإبداع المعاني، والمضامين البكر في شتى الأغراض بالإضافة إلى قوة خياله ومهارته في تصوير دقائق الأمور خلال وصفه للطبيعة والأشخاص مستخدماً الكثير من التشبيهات والاستعارات البديعة.
وجرياً على عادة الأدباء، فقد أكثر نظامي من استخدام المصطلحات العلمية، والمفردات، والتراكيب العربية، كما زخرت أشعاره بالمصطلحات الخاصة بمباني وأصول الحكمة والعرفان، والعلوم العقلية، ولذلك جاءت أشعاره في هذا المجال صعبة ومعقدة للغاية لما احتوت عليه من دقة بالغة في المضامين والخيال. وبالرغم من ذلك كله، ونظراً إلى مهارته المتميزة في صياغة المعاني الأخاذة، وباعه الطويل في تأليف القصص الشعرية، أو الشعر القصصي، فقد أصبحت مؤلفاته نموذجا يحتذى بعد تأليفها بفترة وجيزة، أي منذ القرن السابع الهجري وحتى يومنا هذا.
يعرف نظامي كنجوي كمفكر مبدع لأدب النهضة وأغنى الشعر الشرقي مضمونا وشكلا وأخذ من تاريخ الثقافة البشرية أفكارا جديدة.
تلقى نظامي العلوم في مدرسة غنجة (كنجه) ثم بدأ تعليم العلوم في عهده عبر المطالعة. إنه مطلع على أغلب الأدب الشفوي والمكتوب لشعوب الشرق الأدنى والأوسط. ويتبين من نتاجات الشاعر الذي كان ملما بلغات عديدة إلى جانب لغته الأم الأذربيجانية لهجة من لهجات اللغة التركية الحالية وكان يتقن اللغة الفارسية والعربية والتركية بطلاقة ولديه اطلاع على اللغة اليونانية حيث استوعب العلوم اليونانية القديمة مثل التاريخ والفلسفة والطب وعلم الفلك والهندسة.
من أبرز خصاله، أنه أحب الحياة ودافع عن الكرامة الإنسانية، وكل مؤلفاته ليست لها أي حدود قومية، فهي تنتمي للبشرية كلها، وقد أسس بها، وبأشعاره، مرحلة جديدة للإنسانية، وتأثر كثيرا بالشعر العربي، ويعد من العباقرة الذين استطاعت أعمالهم أن تسافر عبر الزمن.
نظامي غنجوي، مصدر للإلهام، وصاحب فلسفة تقوم على السلام، والتفاهم، واحترام التنوع، وتبادل الخبرات، ويؤمن بالمبادئ والقيم الداعية للتسامح والحوار، وفضلا عن كل ذلك فهو يعتبر التعددية علامة من علامات الحرية الإنسانية، ويعد من أفضل الأمثلة على الاهتمام بإبراز قيم التعايش والتفاهم، وله بصمته في التاريخ والثقافة العالمية، ويذكر عارفو قيمته بأنه لم يكن من شعراء البلاط، بل كان شاعر الشعب، وعاش في قلوب الناس، ومد جسوراً قوية بين الأزمنة والأمكنة، وأشعاره ومؤلفاته تخطت الحدود الجغرافية والزمانية، ووصلت للتقاليد العربية، وله اهتمام كبير بالعلوم والرياضيات والفلك وغيرها من المجالات..
ومكانة نظامي كشاعر موهوب، يعترف بها جميع النقاد من الأدريين وغيرهم على السواء.. وقد اعترف له بذلك كتاب التراجم ومن بينهم عوفي وحمد الله المستوفي ودولتشاه سمرقندي ولطف علي بيك وكذلك الشعراء ومن بينهم سعدي وحافظ وجامي وعصمت البخاري.
من أشهر مؤلفاته “پنج غنج” والتي تعني (الكنوز الخمسة) والتي تتألف من خمسة منظومات قصصية.
> مخزن الأسرار: هي منظومة صوفية تشتمل على كثير من النكات والحكايات على أسلوب حديقة الحقيقة التي ألفها سنائي أو على أسلوب المثنوي المعنوي الذي كتبه فيما بعد جلال الدين الرومي. وهي تشتمل على كثير من المقدمات في المناجاة والحمد، يعقبها عشرون مقالة كل واحدة منها تتعلق بموضوع فقهي أو أخلاقي يتناوله الشاعر أولاً من الناحية النظرية والمعنوية، ثم يصوره بعد ذلك بحكاية من الحكايات.
>خسرو وشيرين: في هذه القصة يجري نظامي على نسق الفردوسي من ناحية الموضوع والصياغة. وموضوع قصته يشتمل على مخاطرات الملك الساساني كسري الثاني وغرامه مع معشوقته الجميلة شيرين، ونهاية‌ منافسه التعيس فرهاد، وقد اعتمد نظامي في هذه القصة على المصادر التي اعتمد عليها الفردوسي من قبل أو على مصادر أخرى شبيهة بها، ولكنه تناولها بطريقة أخرى، ابتعد فيها عن الدراسة الموضوعية، فاستطاع أن يخرجها قصة غرامية بعكس الفردوسي الذي أخرجها قصة حماسية. وهذه المنظومة تشتمل على ما يقرب 7000 بيت.
> مجنون ليلى: وهذه القصة لا تحدث وقائعها في إيران بل تقع حوادثها في بلاد العرب وهي لا تمثل شخصية ملكية، بل تمثل شخصين عاديين من عرب الصحراء إحداهما هو البطل والآخر هو الفتاة المعشوقة. ولكن نظامي استطاع أن يصبغها بالصبغة الفارسية وقد اختار لها وزن الهزج المسدس الأحزاب القبوضة المحذوف. وتشتمل على أكقر من 4000 بيت.
> العروش السبعة: آخر المثنويات التي أنشدها نظامي ويشتمل على أكثر من 50000 بيت من الشعر. وموضوع هذه المثنوية مشابه لموضوع خسرو وشيرين في كونه متعلقا بقصة خاصة بأحد الملوك الساسانيين وهو بهرام جور.
> كتاب الإسكندر المقدوني: هذه هي المثنوية الخامسة من مثنويات نظامي وهي مكتوبة في وزن المتقارب وهو الوزن الذي كتب فيه أكثر الشعر القصصي الفارسي. وهذه المثنوية مقسمة إلى قسمين. الأول منهما يسمى إقبالنامه والثاني يسمى خردنامه.
ولنظامي ديوان من الغزليات والموشحات والقصائد يبلغ العشرين ألف بيت وقد كتب نظامي ديوانه في سنة 584هـ.
وكانت مناسبة زيارتنا للعاصمة الأولى لأذربيجان هي مشاركتنا في الملتقى الإنساني الرابع لباكو سنة 2017 وقد صادف اليوم الأول للزيارة انعقاد اللقاء الخاص بميلاد الشاعر نظامي غنجوي والمنظم تحت رعاية اليونسكو بمدينة غنجة وأبى المنظمون والسلطات المحلية إلا أن نشارك في هذه الاحتفالات، وكان لنا الشرف في افتتاح فعاليات هذا اللقاء بل وارتجال كلمة بالمناسبة وبعدها استمتعت الوفود بزيارة مختلف المآثر التي تزخر بها عاصمة أذربيجان الأولى مدينة غنجة.
وأهم ما أثار انتباهنا ونحن نزور معالم المدينة هو النهضة العمرانية التي تحافظ على الأصالة وتساير المعاصرة في كل تجلياتها، وهذا ما يلاحظ في كل مدن أذربيجان، أولا تزين مدخلها الرئيسي بالكنوز الخمسة للشاعر نظامي على شكل كتب ضخمة من الرخام الخالص محاطة بأسوار عالية وسط حدائق زاهية والتي تؤدي بالزائر إلى ضريح الشاعر على اليمين وقبالته من الشارع يوجد متحف عصري خاص لأبي الشعر الاذربيجاني.

المراجع:

• نظامي غنجوي (كنجوي): ويكيبيديا
• الشاعر العبقري والمفكر الأذربيجاني، نظامي كنجوي (كنجافي): الدكتور مختار بيديلي
*نائب رئيس جمعية الصداقة المغربية الاذربيجانية

<بقلم: د. محمد فقيري

Related posts

Top