محطات حقوقية بارزة في العهد الجديد

تميزت مرحلة حكم الملك محمد السادس، والتي تطفئ اليوم شمعتها العشرين، بست محطات كبرى بصم عليها الملك الشاب منذ توليه الحكم، واعتبرها متتبعون من أبرز الإنجازات السياسية التي كرست مرحلة «العهد الجديد».
وكانت أول محطة كبرى عرفتها فترة حكم جلالة الملك محمد السادس، هي رفع الحصار عن مؤسس جماعة العدل والإحسان عبد السلام ياسين بعد 10 سنوات من الإقامة الجبرية، والسماح بعودة المعارض اليساري أبرهام السرفاتي إلى المغرب إثر الحكم عليه بالمؤبد وإبعاده إلى فرنسا، ثم التدخل لطي الخلاف بين الإسلاميين واليساريين حول مدونة الأسرة، قبل أن تنطلق مبادرة هيئة الإنصاف والمصالحة التي حاولت إنهاء جراح «سنوات الرصاص».
كما بصم جلالة الملك على مسار تنموي جديد انطلق مع ورش ضخم أطلق عليه اسم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ضم آلاف المشاريع بملايير الدراهم، كما حرك الملك محمد السادس المياه الراكدة بملف الصحراء باقتراح مبادرة «الحكم الذاتي» التي شكلت منعطفا تاريخيا في النزاع، لتأتي بعدها سنة 2011، واحدة من أصعب السنوات في المنطقة العربية، حيث سقطت خلالها أنظمة حكم بأكملها، فكان تحرك الملك حاسما لتجنيب المغرب تداعيات «الربيع» عبر خطاب 9 مارس الذي أسس لدستور جديد للبلاد، انطلقت معه مرحلة أخرى في تاريخ المملكة.
واعتبر بعض المحللين، أن هذه المحطات الست جاءت ضمن إجراءات قام بها جلالة الملك من أجل طي صفحة والده الراحل على المستوى السياسي والحقوقي والاجتماعي، وإعطاء مفهوم جديد للسلطة يكرس مسلسل «الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي»، وأن هناك مجهودات وأوراشا تبذل في هذا المجال، بالرغم من عدم تحقيق كل الطموحات والآمال التي كانت معقودة على «العهد الجديد».

رفع الإقامة الجبرية

دشن جلالة الملك محمد السادس، بعد أشهر من توليه العرش، أول خطوة في إطار نهج سياسة التصالح مع المعارضين، وذلك بعد أن أمر سنة 2000 برفع الإقامة الجبرية عن عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان، في إشارة قوية من جلالة الملك، تلتها أخرى تتمثل في عودة المعارض اليساري البارز من أصل يهودي، إبراهام السرفاتي، إلى المغرب، بعد إبعاده إلى فرنسا منذ العام 1991. وقد أراد جلالة الملك محمد السادس بذلك تدشين فترة حكمه بنهج سياسة التصالح مع المعارضين، من أجل تخفيف التوتر التي طبع مرحلة والده الراحل، وهو ما جعله يبادر إلى السماح بعودة السرفاتي إلى وطنه في شتنبر 1999، مع تمكينه من جواز سفره المغربي وظروف إقامة محترمة، قبل أن تتم إعادة الاعتبار له بتعيينه مستشارا لدى المكتب الوطني للأبحاث والتنقيب عن النفط، وتوفي بمراكش في 18 نونبر 2010.

الخطة الوطنية لإدماج المرأة

أثار مشروع قانون الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية عام 1999، جدلا كبيرا في بداية حكم جلالة الملك محمد السادس، أدى إلى تجميدها، وإلى تدخل جلالة الملك لحسم الخلاف، حيث تم تشكيل لجنة لصياغة مشروع يحظى بالتوافق بين كل الأطراف، وهو ما تم بالفعل بعدما استطاع أعضاء اللجنة الاستشارية المكلفة بمراجعة مدونة الأحوال الشخصية، رغم النقاشات الساخنة والاختلاف الواضح، الوصول إلى توافق حول التقرير النهائي الذي عرض على الملك وتمت المصادقة عليه تحت اسم “مدونة الأسرة” في فبراير 2004. ويعتبر محللون وسياسيون أن هذه المدونة واحدة من أبرز الأوراش التي تحسب للملك محمد السادس، نظرا لكونها مازجت بين تكريس المرجعة الإسلامية وقواعدها الشرعية انطلاقا من الانفتاح على مختلف المرجعيات والمذاهب الفقهية، وكذلك تنصيصها على مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي وقع عليها المغرب والتزم ببنودها، استجابة لنداءات العديد من الحركات النسائية وفعاليات المجتمع المدني التي تنادي بحقوق المرأة. مدونة الأسرة أرضت جميع الأطراف الذين اعتبروها نقلة نوعية وحقوقية لوضعية المرأة والأسرة المغربية عامة، وذلك بعدما كانت تشكل وضعية المرأة والأسرة في المغرب ميدانا مفتوحا للصراع بين أطياف المشهد السياسي.

هيئة الإنصاف والمصالحة

حاول جلالة الملك محمد السادس منذ بداية توليه العرش، طي واحد من أصعب وأعقد الملفات التي كانت مطروحة على طاولته، وهي ملف “سنوات الرصاص”، وذلك ضمن عملية ابتغت تحقيق انفراج سياسي وتحسين صورة المغرب، بعد عقود من الصراع والاحتقان بين الدولة والمعارضة، ارتكبت خلاله انتهاكات جسمية لحقوق الإنسان. ففي 7 يناير 2004 بأكادير، بادر جلالة الملك إلى تنصيب أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة، حيث عهدت إليها مهمة تصفية ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب من 1956 إلى 1999، كهيئة غير قضائية تقوم على إرساء الحقيقة وجبر الضرر الفردي والجماعي، عبر كشف حالات الاختفاء القسري، وتعويض الضحايا، وإصدار توصيات لتفادي تكرار الانتهاكات، وهي هيئة ترأسها الحقوقي الراحل إدريس بنزكري، وجاء بعده الناشط الحقوقي أحمد حرزني.
وجاء إنشاء هذه الهيئة مباشرة بعد إنهاء نشاط هيئة التحكيم المستقلة التي تأسست في 16 غشت 1999 باقتراح من المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، لتعويض عدد من الضحايا وعائلاتهم بعد الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإغلاق عدد من مراكز الاعتقال السرية في بداية التسعينيات. والعام الماضي، أصدر المجلس الوطني لحقوق الإنسان حصيلة تنفيذ توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة لجبر ضرر أزيد من 19 ألف شخص، حيث أوضح المجلس أنه تم كشف مصير 803 حالة من ضحايا الاختفاء القسري أو الاعتقال التعسفي أو الأشخاص المتوفين خلال أحداث اجتماعية مختلفة، وتمكن من تحديد أماكن دفن رفات 385 حالة، واستخراج رفات 185 متوفى، واستخراج الحمض النووي لـ 44 حالة من لدن فريق من الأطباء الشرعيين بين دجنبر 2005 وماي 2012. وبلغ عدد الضحايا وذوي حقوقهم ممن استفادوا من التعويض المالي 19.476 شخصا، بمبلغ إجمالي قدر بحوالي مليار درهم، إضافة إلى استفادة 1.335 من الضحايا وذوي الحقوق من الإدماج الاجتماعي، و18.343 من التغطية الصحية، كما تمت إعادة الاعتبار لـ 4 مقابر جماعية تضم جثامين ضحايا أحداث الدار البيضاء والناظور الاجتماعية، وضحايا الاختفاء القسري بأكدز ومكونة، وذلك بعد أن قامت الهيئة بجلسات استماع للضحايا وأهاليهم ومسؤولين في أجهزة الدولة، مباشرة على شاشة التلفزة وأمواج الإذاعة الوطنية، واطلعت على الأرشيفات الرسمية، غير أن الهيئة اعترفت في تقريرها الختامي الذي قُدم إلى الملك، أنها “واجهت أثناء الكشف عن الحقيقة معوقات، من بينها محدودية بعض الشهادات الشفوية وهشاشتها، والحالة المزرية التي يوجد عليها الأرشيف الوطني، والتعاون غير المتكافئ لبعض الأجهزة الأمنية حيث قدم البعض منها أجوبة ناقصة عن ملفات عرضت عليها، كما رفض بعض المسؤولين السابقين المحالين على التقاعد المساهمة في مجهود البحث عن الحقيقة”.
تجربة الإنصاف والمصالحة قوبلت بترحيب دولي. غير أنها لاقت تحفظات من طرف هيئات حقوقية محلية وبعض عائلات الضحايا، ممن تمسكوا بضرورة إصدار اعتذار رسمي صريح من طرف الدولة، ورفضوا ما اعتبروها سياسية “الإفلات من العقاب”، منتقدين عدم الكشف عن مصير شخصيات معروفة، كما طالبوا بمتابعة المسؤولين عن الانتهاكات وعدم الاكتفاء بتعويض الضحايا.

خطاب 9 مارس

يتذكر المغاربة كيف ترقب الرأي العام خطاب الملك محمد السادس يوم التاسع من مارس 2011، غداة تحرك الشارع في 20 فبراير من نفس العام، ضمن الحراك الشعبي الذي هز المنطقة العربية وضرب عروش أنظمة متسلطة، وهو الخطاب الذي خصصه الملك للتفاعل مع أمواج المتظاهرين التي اجتاحت شوارع المملكة، مما جعله يشكل لحظة فارقة ومنعطفا حاسما في المسار السياسي للبلد، وكرس مقولة “الاستثناء المغربي”. خطاب 9 مارس تضمن مصطلحات جديدة لم يتعود عليها المغاربة في الخطب الملكية، وتم خلاله الإعلان عن فتح ورش الإصلاح الدستوري الذي كان مطلبا حاضرا في الشارع ولدى الطبقة السياسية، وهو ما مهد لتأسيس دستور جديد نقل صلاحيات قوية كانت بحوزة الملك إلى رئيس الحكومة الذي سيصبح هو المسؤول الأول عن الحكومة وعن المجلس الحكومي، وأعطى للمغاربة حقا متقدما لاختيار من يدير شؤونهم. الخطاب الاستثنائي الذي دام حوالي ربع ساعة، حظي بمتابعة كبيرة داخل المغرب وخارجه، ولقي إشادة من طرف جل الأحزاب والهيئات السياسية والنقابية والجمعوية، كما ثمنت مضامينه دول غربية ومنظمات دولية، معتبرين أنه خطاب تماشى مع نبض الشارع وقدم جوابا سياسيا عن أكبر حركة احتجاجية يعرفها المغرب في تاريخه المعاصر من أجل المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ويرى بعض المحللين، أن الدستور الجديد الذي مهد له الملك عبر خطاب 9 مارس، شكل نقطة تحول كبيرة في مسار الانتقال الديمقراطي، غير أنه كان يحتاج إلى نخب خاصة لمنح نصوص الدستور حمولة ديمقراطية. يقول محللون في هذا الصدد “إن المغرب نجح في إقرار نص دستوري متقدم، لكنه فشل في خلق نخبة خاصة تتماشى مع روح الدستور”.

***

تحقيق مكتسبات حقوقية رغم التحديات والسعي نحو تعزيزها

بوبكر لاركو 

 

إن المتتبع الموضوعي لوضعية حقوق الإنسان في بلادنا، لن يتردد في القول، إن هذا المجال عرف مراكمة العديد من المكتسبات الحقوقية، رغم التحديات والإشكالات التي تعرفها عملية إعمال حقوق الإنسان وإحقاقها، ولعل أهم هذه الإنجازات التي عرفها المغرب، في العقدين الأخيرين من حكم الملك محمد السادس، تتمثل في:إن المتتبع الموضوعي لوضعية حقوق الإنسان في بلادنا، لن يتردد في القول، إن هذا المجال عرف مراكمة العديد من المكتسبات الحقوقية، رغم التحديات والإشكالات التي تعرفها عملية إعمال حقوق الإنسان وإحقاقها، ولعل أهم هذه الإنجازات التي عرفها المغرب، في العقدين الأخيرين من حكم الملك محمد السادس، تتمثل في:
* تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة  قامت هذه الهيئة بمعالجة جريئة لأوضاع الحقوق المدنية والسياسية عبر إصدار تقريرها الختامي الذي وقف عند نوعية الانتهاكات ومدى جسامتها وسياقاتها على ضوء معايير حقوق الإنسان والخلاصات والتوصيات التي تضمنها هذا التقرير. فإلى جانب جبر الضرر الفردي في أبعاده المتعددة، وتبني بعض مشاريع جبر الضرر الجماعي، منها المرتبطة بحفظ الذاكرة، نجد تلك الحزمة القوية من التوصيات، التي أكدت على الإصلاحات الدستورية والسياسية والقضائية، والدعوة لانخراط المغرب في المنظومة الأممية لحقوق الإنسان، وإصلاح القضاء والحكامة الأمنية ونشر ثقافة حقوق الإنسان من أجل قطع الطريق عن أي تكرار للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، من مثل المصادقة على مجموعة من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالتعذيب والاختفاء القسري وتجريم الانتهاكات الجسيمة، إلى جانب إلغاء عقوبة الإعدام وعدم الإفلات من العقاب… هذه المجالات رصدتها هذه الهيئة وأرادت بتلك الإجراءات استئصال كل ما له علاقة بممارسات سنوات الرصاص.
* تقرير الخمسينية “المغرب الممكن”   وقف هذا التقرير عند تشخيص واقع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بلادنا، وعند الاختلالات والخصاص الذي تعرفه هذه الحقوق، لكي يكون أمام مدبر الشأن العام تشخيصا متكاملا للحقوق الأساسية للمواطن(ة) المغربي(ة)  وإطلاق المشاريع الكبرى لتجاوز ذلك..
* مدونة الأسرة عرفت مراجعة نوعية في فترة تبنيها سنة 2004، رغم التدافع المجتمعي الذي عرفته هذه المراجعة بين التيار المحافظ والتيار الحداثي المتبني لمنظومة حقوق الإنسان.
* دستور 2011 الدستور الجديد  تبنى منظومة حقوق الإنسان، حيث خصها بباب كامل تحت عنوان “الحريات والحقوق الأساسية”، وهو الذي جعل من توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة أساسا لهذا الباب وغيره، ولعل أهمها يتمثل في الحق في الحياة وتجريم كل الجرائم التي تجرمها المحكمة الجنائية بروما، وتجريم كلا من التعذيب والاختفاء القسري، وإقرار المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والسعي نحو المناصفة، وضمان حرية الفكر والرأي والتعبير والإبداع والنشر، والحق في الوصول إلى المعلومة، مع ضمان حريات الصحافة والاجتماع والتجمع والتظاهر السلميين… وأيضا ضمان مجموعة من الحقوق الأساسية في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، كما كرس الدستور مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، هذا المبدأ الذي نجده بشكل عرضاني في كل أبوابه، بل إن ضمانات عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في العديد من هذه الأبواب مثل اضطلاع السلطة التشريعية بمجال التشريع والمراقبة وتقصي الحقائق، والباب السابع الذي ركز على استقلالية السلطة القضائية…. ودعما لذلك، دسترة مجموعة مهمة من المؤسسات الوطنية الساهرة على حماية الحقوق والحريات وذات العلاقة بالحكامة، مما أدى إلى خلق مؤسسات جديدة وإعطاء صلاحيات جديدة لأخرى، كانت قائمة عبر التنصيص على وضع قوانين تنظيمية خاصة بها، وكل هذا تؤطره ديباجة الدستور التي تعتبر جزء لا يتجزأ منه والتي أقرت سمو القوانين الدولية على القوانين الوطنية.
* إشراك الاحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني وقد تم ذلك، من خلال اقتراحاتها وتوصياتها عبر مذكراتها وبياناتها التي رافقت كل هذه الإصلاحات سواء فيما يخص المدونة أو هيئة الإنصاف والمصالحة أو الوثيقة الدستورية….* المصادقة على الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية أو التوقيع عليها ومنها:• اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري؛• اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة؛• البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية …؛• الميثاق العالمي للجوء؛ • الميثاق العالمي للهجرة…. *   المشاريع الكبرى شملت هذه المشاريع التجهيزات الأساسية مثل الطرق السيارة ودعم بنية الطرق الوطنية والمسالك، إلى جانب تعميم كهربة العالم القروي والعناية بالطاقات المتجددة، وبناء السدود والتزود بالماء الصالح للشرب، ومشاريع السكن الاجتماعي.. ناهيك عن تجهيز الموانئ وخلق أخرى وتبني مشاريع المغرب الأخضر وخلق المناطق الصناعية التي استقطبت استثمارات مهمة مما أدى إلى خلق فرص للشغل رغم الأزمات الدورية التي يعرفها العالم.
الآفاق والطموحاتأمام الاختلالات والخصاصات التي عرفها المغرب لعقود، ورغم كل هذه المجهودات، فإن دولة الحق والقانون لا تبنى بين عشية وضحاها مهما كانت الإرادة السياسية لأجل تحقيق ذلك، وإن إعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والتنموية يستلزم تظافر جهود جميع الفاعلات والفاعلين السياسيين والاقتصاديين والجمعويين… لقد وقفت المنظمة المغربية لحقوق الإنسان في دراستها للمذكرات المرفوعة من طرف الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات المدنية والمهنية للجنة الملكية المكلفة بتعديل الدستور، أو من خلال دراستها للبرامج الانتخابية للأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان سواء تلك المرتبطة بالانتخابات الجماعية أو التشريعية، عند ذاك الخصاص المهول بخصوص حقوق الإنسان، مما جعلها تخصص ندوتها الموضوعاتية خلال انعقاد مؤتمرها الأخير لدور الفاعل في إعمال حقوق الإنسان وإحقاقها من أجل دق ناقوس الخطر وشحذ الهمم.إن هذا التحدي الأساسي جعل من القوانين التنظيمية والعادية التي شرعت إعمالا للمقتضيات الدستورية، بعيدة عن طموحات الطيف الحقوقي ومطالبه، ولعل المؤمل أن تفعل مقتضيات الخطة الوطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يمكن أن تجيب عن الكثير من الاختلالات ضمانا للحريات الأساسية وعدم الإفلات من العقاب والعديد من الخصاص الذي يعاني منه المواطن(ة) بخصوص الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وحماية الفئات الهشة كالأطفال والمسنين والأشخاص ذوي الإعاقة واللاجئات واللاجئين والمهاجرات والمهاجرين.

***

ملفات حساسة وعالقة واجهها الملك بشجاعة وبصرامة مهما اختلفت نتائجها

عبدالرزاق بوغنبور

أعتقد أن قراءة حقوقية في حكم محمد السادس، خلال العشرين سنة الأخيرة، وبمقاربة حقوقية، وبجرد للحصيلة بموضوعية تامة، ومعالجة الأمر بدون تحفظات وبعيدا عن السطحية، تقتضي التأكيد على مجموعة من المعطيات خلال هذه الفترة:
• أولا، عدم الخلط بين ما تقوم به الحكومة وهو عمل محدود “القابل للمساءلة نسبيا”، وبين ما يقوم به الملك والذي يدخل في باب المقدس “غير القابل للمناقشة”.
• ثانيا، سلوك السلطة الذي يرفض بشكل مطلق توجيه أي نقد للمؤسسة الملكية رغم أنها طرف أساسي في الحياة السياسية، بل إنها تحتل صدارة المشهد بمبادراتها وقراراتها المؤثرة بشكل مباشر، كما أن الكثير من التدابير المتخذة نابعة من سلطات الملك وصلاحياته المطلقة حسب دستور2011.
• ثالثا، تقييم عمل الملكية وإنجازاتها، ينبغي أن يكون من ضمن التقييمات التي تتم كل سنة، لتدارك ما يمكن أن يقع من أخطاء أو هفوات، بدل انتظار تراكم العديد من السنوات والقيام بقراءة المرحلة دون الاعتماد على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، غير أن ما يتم عمليا هو عدم تطبيق هذا المبدأ الدستوري عندما يتعلق الأمر بالملكية، إذ يتم اللجوء إلى محاسبة الحكومة في مجمل سياسات الدولة بما فيها تلك الصادرة عن الملك كيفما كان مصدرها.
بكل موضوعية، يمكن أن نشير إلى أن ملفات حساسة وعالقة منذ البداية واجهها محمد السادس بشجاعة وبنوع من الصرامة مهما اختلفت نتائجها ويمكن ذكر البعض منها:
> ملف الاعتقال السياسي ومختطفي زمن سنوات الرصاص “ضحايا القمع السياسي زمن حكم الحسن الثاني”، حيث تم فتح هذه الملفات وكان انطلاق مسلسل تجربة العدالة الانتقالية بالمغرب، والحركة الحقوقية لحدود الآن تعتبر أن الملف لم يطو بعد، لأن توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة تم الالتفاف على جزء كبير منها ولازال عالقا إلى الآن.
> ملف الإصلاح السياسي والدستوري، تم بسرعة فائقة استجابة لمطالب الحراك الاجتماعي لسنة 2011، “حركة 20 فبراير أساسا” وذلك بإعادة النظر في الدستور والذي أصبح متقدما إلى حد كبير في مجال الحقوق والحريات، ولو أن جزء كبيرا منه تم الالتفاف عليه، إما أثناء الأجرأة أو الممارسة، حيث وقع تراجع كبير في مجموعة من الحقوق والحريات (استهداف الحق في التنظيم / المس بحرية التعبير/ المس بالحق في التظاهر السلمي عبر الإفراط في استعمال القوة / استمرار الاعتقال والمتابعة السياسية للنشطاء والحقوقيين / تزايد متابعة ومحاكمة الصحفيين / غياب ضمانات المحاكمة العادلة /…..).
> لجوء المؤسسة الملكية إلى العديد من الإجراءات واستعمالها لمصطلحات جديدة لم يألفها المجتمع المغربي من قبيل: “المجتمع الحداثي الديمقراطي” و”المفهوم الجديد للسلطة” و”ملك الفقراء”…، مما أوحى للرأي العام الوطني والدولي أن المغرب سيدخل منعطفا جديدا وإيجابيا، وهو ما تحقق بشكل نسبي واحتفالي فقط، بالمقابل أحدث الملك العديد من المؤسسات الموازية للحكومة، والتي لا تتبع لوصاية الحكومة المنتخبة، كما كلف شخصيات كثيرة مقربة بمشاريع وقضايا معينة لا تتحكم فيها الحكومة ولا تُسأل عنها..
> في مجموعة من خطب الملك خلال العشرية الثانية، تعرض لعدد كبير من معيقات التنمية والعمل المؤسساتي الطبيعي، كما اعترف بوجود اختلالات كثيرة أقرت بها دراسات وخبراء وطنيون ودوليون، بل ووصل الأمر إلى الإعلان عن فشل النموذج التنموي المطبق في بلدنا. وكان أهم خطاب ألقاه جلالة الملك بهذا الصدد الخطاب الذي تساءل فيه عن أين الثروة؟؟، وعن السبب الذي يجعل هذه الثروة لا تنعكس بالشكل الإيجابي المطلوب على حياة الناس، وخاصة المستضعفين منهم، هذا السؤال الذي ظل لحدود الآن بدون إجابة بل وفي الكثير من الأحيان، أصبحت الإجابة عنه محرجة أمام ارتفاع وثيرة نهب المال العام وغياب المساءلة والمحاسبة.
• بقدر ما لوحظ التواجد القوي للمؤسسة الملكية في كل الواجهات، حتى أضحى المواطن البسيط يدرك أن الملك هو الفاعل الأساسي في كل المجالات وصاحب القرارات ووراء كل الإجراءات المتخذة، نجد بالمقابل الضعف الكبير للحكومات المتعاقبة وغياب المصداقية لدى الأحزاب السياسية خاصة منها الممثلة في البرلمان.
> تقوية مؤسسات الدولة (المندرجة في إطار رد الاعتبار لهيبة “المخزن”) كان مقابله افتقاد روح المبادرة لدى الفاعلين السياسيين الآخرين، مما أدى إلى فقدان الثقة في الأحزاب وتزايد العزوف السياسي ومقاطعة صناديق الاقتراع باعتبار أن هذه الأخيرة غير قادرة ولا صلاحية لها في تحسين شروط عيش المغاربة.
• عدم التفاعل الإيجابي مع بعض القضايا والحراكات الاجتماعية المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، حيث لوحظ أن الحراك الاجتماعي بالريف تجاوز الستة أشهر، وتبين أن الأغلبية المشكلة للحكومة بقيادة العدالة والتنمية، عجزت عن احتوائه ولم يتدخل الملك من أجل المعالجة السريعة لمطالب المحتجين وتلافي ما وقع بعد ذلك من اعتقالات ومحاكمات لم تسلم من الانتقادات داخل الوطن وخارجه. لازالت تبعاتها الحقوقية مستمرة حتى الآن.
• استمرار المؤسسة الملكية في الارتباط بدوائر النفوذ الاقتصادي والمالي لدرجة التحكم، حيث يعتبر هذا الأمر سلبيا ولا يساهم في التطور الديمقراطي، بسبب استحالة حياد أصحاب القرار في تطبيق القانون وفي مساواة الجميع أمامه، وكذا بسبب ما يؤدي إليه ذلك من احتكار يحول دون دمقرطة الاقتصاد وتحفيز المستثمرين الوطنيين والأجانب. وفيه إشارة سلبية في عدم الفصل بين السلطة والثروة حيث رفع هذا المطلب ضمن العديد من الحراكات ومن معظم المنظمات الحقوقية الوطنية.
• الاستمرار في دعم وتقوية المؤسسة العسكرية، حيث لأول مرة في تاريخ المغرب، تمت المصادقة على قانون يضمن حماية العسكريين من المساءلة الجنائية وتمتيعهم بالحصانة، هذا القانون أثار الكثير من الجدل بين مكونات الحركة الحقوقية وكان الاعتراض خاصة على المادة السابعة منه والتي تؤكد على: “لا يسأل جنائيا العسكريون”، لمخالفتها للمعايير الدولية لحقوق الإنسان وللدستور نفسه ولتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، لأنها تمنح حصانة مطلقة وتقر الإفلات من العقاب، قبل أن يتم تعويضها بعبارة “يتمتع العسكريون بحماية الدولة”. حيث حضر بقوة الفاعل الحقوقي وغاب الفاعل السياسي.
‎لقد تمكن المغرب من طي جزء مهم من الماضي الأليم في قضايا حقوق الإنسان، وكان للحركة الحقوقية وذوي الحقوق والهيئات السياسية الديموقراطية دور أساسي في هذا الحسم التاريخي، والذي تزامن مع إرادة ملكية لإنهاء واحد من الملفات السوداء، وإن كانت عشرات التوصيات المرتبطة بمستقبل البلاد، دستورية وسياسية وقضائية وأمنية… ما تزال حبرا على الورق، ومع ذلك فالحركة الحقوقية تأمل في التوجه نحو الغد بآفاق جديدة ويحدوها الأمل في إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين والمتابعين على خلفية الاحتجاجات المختلفة ودمقرطة المجتمع عبر انتخابات نزيهة وشفافة تفرز نخبا سياسية جديدة لها كامل الصلاحيات في اتخاذ القرار حتى يمكن مساءلتها ومحاسبتها.

> إعداد: حسن عربي

Related posts

Top