يثار هذا السؤال اليوم بقوة. فهل يمثل الشعب الفلسطيني، الرئيس محمود عباس، أم إسماعيل هنية، أم قادة الفصائل الفلسطينية الأخرى، أم منظمة التحرير الفلسطينية، أم المجلس التشريعي الفلسطيني، أم المجلس الوطني الفلسطيني؟
جاء طرح هذا السؤال بعد تضارب ظاهر في المواقف التي تصب في صميم مصالح الشعب الفلسطيني، ووجود عدد من القيادات في مناسبات كل منها يدعي أنه يعبر عن الوجدان العام للمواطنين. وهي قضية جرى حسمها من قبل، غير أن التغيرات التي حدثت في الواقع الفلسطيني أثارت الالتباس، وفتحت المجال لكثير من الجدل، بعد مسيرة طويلة من الصعود والهبوط.
يحكم الفلسطينيون اليوم من قبل طرفين أساسيين، هما حركة فتح في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة. وحقق كلاهما ذلك عن طريق وضع اليد واستخدام القوة والعنف.
انتهت شرعية الرئاسة الفلسطينية بانتهاء مدتها الشرعية، ويحكم اليوم الرئيس عباس بشرعية توافقية وليست انتخابية. وسقطت شرعية المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب عام 2006 بسبب انشقاقه أولا وانتهاء مدته الشرعية ثانيا.
ليست هناك ولاية للجنة المركزية أو التنفيذية لمنظمة التحرير على الشعب الفلسطيني الذي لم يخترهما. وتملك الفصائل الولاية على أعضائها ولا ولاية لها على الشعب الفلسطيني.
تقول الحقيقة المؤلمة إنه فيما عدا شرعية عباس التوافقية، فليست لأي من المذكورين أعلاه الشرعية في تمثيل الفلسطينيين، ولم يختر أحدهم مواطن فلسطيني واحد.
لقد سقط النظام السياسي الفلسطيني ولم يعد بالإمكان إصلاحه، والشعب الفلسطيني يحتاج لقيادة جديدة يختارها وحده بحرية.
يحكم الرئيس عباس الضفة الغربية، كما رئيس منظمة حماس في قطاع غزة، وما تملكه من خلال دائرة صغيرة من مستشارين ووزراء وسفارات وشرطة ورجال أمن.
طرفان يقرران وحدهما واقع ومستقبل الشعب الفلسطيني دون مشاركة أو تأييد أو ربما اهتمام من المواطنين. لقد حان الوقت لإعادة السلطة للشعب، واحترام حقوقه في اختيار قياداته، وحرية رأيه، وإنهاء معاقبته، وحرمة دمه.
الله وحده فقط يعرف المصير الذي ينتظره الشعب فيما لو خلا منصب الرئاسة الفلسطينية. ورغم فقدانه الشرعية الانتخابية، يمثّل الرمز الوحيد المتبقي لتمثيل الوحدة.
خلال مئة وعشرين عاما من الزمن، كانت فلسطين تحت الحكم التركي ثم حكمتها بريطانيا، وبعدها حكمت إسرائيل الجزء الأكبر، بينما حكم الأردن الضفة الغربية ومصر قطاع غزة نتيجة لانسحاب بريطانيا من فلسطين واندلاع الحرب.
وحكمت إسرائيل فلسطين بكاملها حتى عام 1994، وبعدها حكمت السلطة الوطنية – حركة فتح، أجزاء من الضفة الغربية وقطاع غزة. وبين عامي 1996 و2007 تمثّلت فلسطين لأول مرة في تاريخها بقيادة منتخبة في انتخابات رئاسية وتشريعية.
في وقتنا الحاضر، حكمت حركة حماس قطاع غزة، واستقرت حركة فتح في الضفة الغربية. وتتابع منذ أوائل ثلاثينات القرن الماضي خمسة رؤساء للشعب الفلسطيني، وصل جميعهم للمنصب باتفاق الدول العربية أو المنظمات والأحزاب الفلسطينية، ما عدا الرئيس الراحل ياسر عرفات والرئيس محمود عباس، حيث كانت رئاستهما نتيجة لانتخاب شعبي رئاسي وتشريعي.
عندما لم يكن هناك كيان سياسي فلسطيني على الأرض الفلسطينية، تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية وخلقت من العدم بالتضحيات والعزم والتراص كيانا فلسطينيّا في جزء من أرض فلسطين، يعيش عليه جزء من الشعب.
ولأنه لم يكن من الممكن تسمية ذلك الجزء الفلسطيني باسم دولة منظمة التحرير فقد أطلق عليه اسم السلطة الوطنية التي تمكّنت أخيرا من التوشّح باسم دولة فلسطين.
كان ذلك عهد النضال والمقاومة والحفر بالأظافر من أجل أن يسمع العالم ويرى حجم المأساة التي اقتلعت شعبنا من أرضه ومسحت تاريخنا ووجودنا وإنسانيتنا. ولم يكن عهد البناء أو الحكم أو الانتخابات.
تمترس الشعب وراء حفنة من شباب فلسطيني في مسيرة طويلة مخضمة بالدم والعذاب والموت والسجون حتى تمكّن من الاستحواذ على الاعتراف الدولي به كشعب وليس كلاجئين، على جزء وليس الكل، كان ذلك هو الممكن وليس الأفضل، وكان البداية الحقيقية للعمل على استرجاع بلادنا وحقوقنا، الأمر الذي فشلنا في تحقيقه في ما بعد.
احتضن عام 1993 التغيير الأساسي في مسيرة الشعب الفلسطيني، حيث ردّ إليه جزء من أراضيه المسلوبة، وقام الفلسطينيون المتواجدون على الأرض لأول مرة بانتخاب رئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية، ومجلس تشريعي.
حين ترجّل ياسر عرفات التزم الشعب وفصائله ومنظماته ونقاباته بالقانون الأساسي في ما يتعلق بالانتخابات، وتم تداول السلطة سلميّا بانتخاب رئيس جديد وأعضاء مجلس تشريعي جديد، وتم تسليم السلطة الوزارية للفصيل الذي نال الأكثرية في الانتخابات التشريعية، حركة حماس. ثم انهار كل ما بنى شعبنا ودخلنا في دوّامة مهينة في استحلال دماء بعضنا وكرامته.
لم يكن عهد السلطة الوطنية الذي قادته حركة فتح دون أخطاء، فقد تمادى بعض قادة وأعضاء الحركة المنتصرة (فتح) في الاستحواذ على المناصب والوظائف والمراكز، وتم أحيانا تداخل المسؤولين في العمل التجاري، وتعسّف بعضهم الآخر في التعامل مع المواطنين، وعمّ الاحتكار الحكومي خاصة في الإسمنت والغاز والبترول.
وابتدأ التنافس على الوظائف وانتشر التململ والأحاديث عن الفساد، وساهمت بعض الدول العربية وبعض المحطات التلفزيونية الإسرائيلية والأجنبية والعربية في نهش التجربة الفلسطينية الجديدة، وكان الكاسب الأكبر من هذا التطوّر هو حركة حماس.
ظهرت حركة حماس للوجود بقرار من قيادة الإخوان المسلمين التي سمحت بقيام فرع فلسطيني للإخوان المسلمين، بعد أن كانت الساحة الفلسطينية منذ إنشاء الجماعة ملحقة للجماعة في مصر.
منذ اليوم الأول لظهور حركة حماس أعلنت العداء لفتح واتهمتها بكل السلبيات والعمالة. واعتبرت نفسها بديلا وليس رديفا لأهداف ووسائل تلك الحركة. وتصاعدت شعبيتها خاصة لنشاطها وعملياتها وتضحياتها في الانتفاضة الفلسطينية، كما تزايد عدد مؤيديها ومموليها من الدول العربية.
تصاعد الصدام بين العدوين الفلسطينيين وسفكت الدماء، وأدرك قادة حماس، بعد صدامات دامية مع أجهزة وشرطة السلطة الوطنية، أن الحركة عاجزة عن هزيمة النظام الفلسطيني الجديد في ساحة الوغى، وابتدأ تفكيرهم منذ السنوات الأولى للقرن الجديد في الانتخابات.
واستطاعت تحقيق ذلك بدعم أميركي وأوروبي وعربي. فازت في الانتخابات التشريعية، وتسلمت منصب رئاسة الوزراء. لم تنجح القيادة الفتحاوية ونظيرتها الحمساوية في التوصل إلى تفاهم سلمي للاتفاق على حكم مشترك بينهما.
حسمت حماس الموقف، بموافقة غير معلنة من حكومة رام الله، بقيادتها لانقلاب على السلطة وانفرادها بحكم قطاع غزة، وبدأ تفكير حماس جديّا في الاستقلال.
بقلم: مروان كنفاني
مستشار الرئيس الراحل ياسر عرفات