أُريدُ أَن أَقطُن واحٍدة وَحيدة في كوخِ الذَّاكِرةِ الدافئ أسير عبر خطا وئيدة إلى مدائن النور إلى الصبح المُنجلي من مشهد عابر، ثم أتنفس رعشة قلبي في زحمة مخالج الشعور الذي يراودني عن نفسي ويذكرني به كل حين.
فامرأة مفخخة مثلي تقتل بعضها البعض بالمقامرة وتقحم قلبها في معارك نرجسية تشتهي تدوينها كل مرة ككارثة حقيقية، امرأة تنتسب إلى العصيان عاقة للبرود، معارضة للخيبات رغم عنادها، خداعها، مكرها.
تغيب باستمرار وتنوب عن تعويض الأحاديث المحترفة التي تلغي كل جرائمها السابقة، التي طالما أسعفت أمالها الكاذبة وغادرتها بسرعة، فترفعت عن شماتة الأوقات ووشاية اللحظات العاطلة عن الحياة وراحت تضارِع اللحظة علها تطفو فوق أبواب سبعة كلها تفتح نحو فنتازيا خالصة المتعة، فيتغير لحن مزاجي بين الحين والآخر غالبا يتواجد قلبي في الظلام يصد انكماشه المرير.
لازال كل شيء منطبع بذاكرتي، من يولد من رحم الدهشة ويعترضه مخاض عسير، من يفزعه الموت ويحشره في العتمة سينجو للأبد.
تبا لقد أعفيتُني من شهوة الحياة وركضت في مضمار مختلف تماماً كمن يحاول الهرب من الحياة نفسها، تتشابه الكوابيس في عالمي لكن لستُ أخافها تطاردني الأحلام بالقصائد والأشعار والنصوص الساخطة بالحب، امرأة مثلي لا تمتلك حبيبا لكن الحب يجرّها نحو حلاوته يقضي نحبها في تفاصيل تكتبها عنه.
وهنا حيث عزلتي الجميلة، أبحث عن أسباب الفرح المؤجل عن ومضات الانطباع الأول والاعتراف الأول، عن لحظة البداية والاتصال المفاجئ، عن الصوت الأعجوبة الذي جعلني أرتطم بطفولتي وأختبئ خلف هذا السحر الذي جعلني أبدو طفرة منه مختلفة تماما.
شعور هائل عاجز تماما عن جمع حقائب الهجرة، ثم لا أحد يستطيع أن ينخلع من ورطة الحب، أن ينفك من لعبة الغياب وكمين المسافة، فنحن ننتمي حيث النحيب والأسى والهزائم، حيث السهاد والخيبة ودهاليز الوحدة.
فأشهد انهياري بطريقة فخمة كل مساء حينما يمضي الضوء بعيدا، أنظر إلى وجهي في المرآة فألمح حكاية امرأة مجردة تماما من الملامح متكئة على جدار الوقت يلسعها الندم، نادمة جدا على الاحتفاظ بقداسة الأشياء التي أوصلتني إلى ما أنا عليه، أشياء لطالما حركت في داخلي شعورا غريبا أعجز تماما عن وصفه، أشياء انجذبت إليها دائما لاكتنازها تفاصيل دقيقة تستهوي قريحتي، ويا ليثني لم أفعل.
ولا شيء ها هنا يسعف ضياعي، وكل الجروح تأكل قلبي والندم يشتعل من رؤوس الأصابع، والأيام القاتمة تحصد الفرح بمنجل اللوعة، إنه السقم المعتاد يصيبني في أشيائي المكتظة بكومة الشعور القديم وما الحياة التي أعيشها سوى مأزق في غاية الروعة.
ولأنني أعجوبة الحكاية كُنتُ دائِماً ما أَتَّخِذُ مِتراً مِن السِّياجِ لأَختَلي مَع نَفسي أكتُبٌني كآخر الأشياء التي لا تتكرر وأُسَجِّلُ لَحظاتِ الغُروبِ في ذاتي، فأَكتُبُ كُلَّ ما كُنتُ أَراهُ فضاعت مذكرتي وذكرياتي وتلاشى كل ما كنت قد سجلته من مخيلتي وإنه لمؤلم جدا أن أشهد احتضار شعوري ورؤية المشاعر الدافئة وهي تبتر.
فظلت لحظات الغروب راسخة في ذاكرتي .
غروب ودعت فيه ذاتي وغروب استقبلت فيه ضياعي …
ومنذُ ذاكَ اليَوم
والشمس تُسَجِّلُ غُروبي وغيابي فأتحسسه بروحي ثم أبتلع هذا الشعور الحلو وأحاول النجاة من قادم أعظم، هنا گل شيء يترصد أفكاري الهشة المعجونة بسطور طويلة أكتبها عنه.
فأَنا لستُ عالِقاً في الماضي بل ذاكَ الماضي قَد اغتصَبَ حاضِري ومن حينها وأنا ضائعة اقبلوا اعترافي.
كإدمانُ الصُّخورِ العَفِنَةِ التي تَستَوطِنُها الطَّحالِبُ، والكُتُبُ المُهتَرِئَةُ التي لامَسَت صَفحاتِها أَجيالٌ مِن البَصماتِ، والمَنازلُ البالِيةُ التي لم تُوصَد نوافِذُها، وحُطامُ الحَضاراتِ التي خلَّفَتها الحُروبُ بلا مَعالِمٍ، وهُتافاتُ القَراصِنةِ التي ضاعَت أَصداءُها في أَعماقِ البِحار.
يا للهول
هل حقاً كل هذا الضياع يسكنني …
أقف على شرفة هذا الليل الضخم المُنهزم أمام ملوحة دمعي أمارس نزوتي الغير مهذّبة في الكتابة، تلك البقع الزرقاء التي تنتشر على جلدي وتمتص الدفء من أطرافي، كلون السماء العارية التي تترقب إخفاقي في كل مرّة حتى تعلن تفاصيل السفر إليها، ندوبي العائمة فوق جسدي، السواد الذي يغمرني ويحتويني، هالة مزاجي، وحدتي، جموحي، جنوني وجرحي المرّ.
هكذا أنا أنزف من قرمز الأشياء الدقيقة التي خَطتْ بعمري الآتي نحو جبٌ المنافي مذ ردح طويل وهي تنتظر عناقي وضّمي إلى أشياءها المتفردة التي استغرقتْ غروبا وجعاً ودهرا لتدويني في أروقتها الخالدة.
كان حلمي كالقمر تماماً يضيء ظلمة الخوف المنفي في دمي، معاً رجفة برجفة نمضي ونرتحل إلى أمس معلق على مشجب الذكرى، أمس يلوّح لنا بالعودة يداعب الهوى، يخدش الرؤى ويتوجس مكامن الحنين في جيوب الجوى ورسائل الليل الهائمة بالأحلام .
صوته يعانقني ويناديني من بعيد… مرحباً، هذا أنا مرة أخرى.
كيف حالك يا كلي …
يسألني بشوق مخدر وبعد لحظة يبتسم ويعتذر نيابة عني وعن قلبي الأحمق
لم أكن يوما مجرد اسم ولا رقم ولا حتى شكل، كنتٌ دائما ذلك الاستثناء العظيم الذي تفرّد به الكون وكسر قواعد الدنيا وأذهل الأرض من حفيف الساعة التي أعلنتْ تكوين صدى أنفاسي وبثّها في قبضة نور فكنتُ أنا.
بلا ظل.. بلا ملامح.. بلا صوت.. بلا ذاكرة.. بلا لون.
أنجبتني الحياة لتخذلني وتجرّني خلف السنين بمحاذاة جدار الوحدة، لتجلدني بحجم المأساة التي تنتظرني.
كنتُ وجها ساخرا تسّرب من إيقاع مسّجى بالندم.. وجه يتهاوى من اتسّاع الزمن
فكبرتُ في كنف ذاتي الضائعة لكن هي الأخرى غادرتني …
كنتُ روحا خلعت عنها الخواء وفُتحت لها بوابة الرحيل وكم هو صارم ذلك الانتظار القاسي وأنا على حافة الرجفة أقتفي الخلاص من هول ما أشعر.
لأَرحَلَ ونَفسي سويّاً مع أَسرابِ الغُرابِ الرّاحِلة فقط لا تنسوني في رحلتكم القادمة فمن عبق الماضي جئت وإلى عبق الماضي سوف أعود وسأسير بين قوافل الذئاب المهاجرة إلى قمم الغياب وأعدكم أني سأتعلم العواء.
وعلى فوهة الأشياء المبعثرة التي تنتظرني أقتفي من سحابة ظلي غيثا أروي به روحي وبمفترق المشاعر التي تلفظني عتمة أسعى لفتح الأبواب المغلقة وتغيير ماهية الغروب.. وبي رغبة ماطرة في تجديد أشيائي القديمة وحصرها في متاهة ذاتي ووراء جيوب الحضور الهادئ أختفي.
إني هاهنا أبصرني بصمت.
أَن تَبدَأَ حُروفُكَ بالانزِلاقِ مِن آخِرِ صفحاتِ الحَياة وأن تسير خارج حدود الكتاب.. أن تنال حريتك بعد ما أنهيت عذابات فهرسك.. أن تصبح في طي النسيان مشردا تنام على أسرة الأوراق التي لا يقرأها أحد هذا يا عزيزي مآل الحياة.
فاقفِز عَن حُدودِ المعقول وأنحر الغياب لا وقت لديك فسرعانَ ما ستغلَق الكتب
أرجوكُم لا تَترُكوني هُنا فهذا الحاضر لا دفء فيه شتات شتات…
كتبت كل هذا لك أيها العابر بين السطورَ.
وإن لَم تَفهَم مَقصَدَ حَديثي فغطي جسدك بإحدى الأوراق البالية واقرأ على نفسك السلام.
بقلم: هند بومديان