مَرْقَبة العنوان:
يُطالع الكاتب عادل أوتنيل قارئه بعنوان مشاكس، يحقق غايتي الإثارة، والإغراء، لما يختزنه من تقابل دلالي بين مكونيه الأساسين: اللصيلصون، وقَصْرُ المُتعة. فقد بَنَى المُكون الأول على صيغة التَّصغير، وجَمَعَهُ جَمع مُذكر سالم. ومن غاياتِ التَّصغير كما هو معلوم بيانُ ضَآلة الشيء، أو حَقارتِه، أو تعظيمِه، أو تقليلِ عَدَده، أوكونِه مُحَبَّباً… وهي دلالات يَحْمِلُها العُنوان، ويحتَمِلُها أَيْضاً. فاللص بوصفه سارقاً لما لَيْسَ يَمتلكُهُ، هو كائن محتقَرٌ في عُرف الناس، ضئيلُ الاعتبار لديهم، يستعظِمُون جَرائرَهُ وجرائِمَه. ويشير ارتباط التصغير بالجمع إلى قلة عدد الموصوفين باللصوصية في الرواية، يتأكد ذلك بكونهم لا يتجاوزون سبع شخصيات. وقد أضفى عليها السارد من الصفات والسمات ما يجعل تصغيرها دالا على التحبيب، مضفياً على أفعالها صبغة المروءة والبطولة، على النقيض مما هو شائع في العرف، ومترسخ في قيم المجتمع
تتقابل لفظة “اللصيلصون” أيضاً مع المكون الثاني في العنوان “قصر المتعة”، باعتباره الفضاء الذي يجمع هؤلاء اللصوص، ويوحد بينهم. أولاً لأن اللص لا يسكن في قصر، ناهيك عن أن ينعم فيه بالمتعة. وما ذلك إلا لكونه طريد جناياتٍ، لا يسير إلا متخفياً وراء قناع، أو كلتحفاً جُنْحَ الظَّلام.. لا يُهتدى إلى مكمنه، ولا يُعرف له عنوان.. وسنرى أن التقابل بين الصوص والقصر سيزيدُ توتراً عند وصف السارد له.
لااللص الشريف:
نحن إذن أمام رواية تتخذ من شخصية اللصّ بطلاً لها، لتتقاطع مع تراثٍ عربي وإنساني عريق، وتتناص مع متونٍ حكائية وسردية ثرة. ولا ريب في أن اشتغال الكاتب عادل أوتنيل في أطروحته على “صور الاغتراب في شعر الصعاليك” كان دافعاً قوياً ليتأثر بأدبياتهم، ويجد في خطابهم الشعري وما رافقه من محكيات وأخبار تتاخم الغريب بل والعجائبي، يجد في كل ذلك ما يجعلهم أقربَ إلى توصيف الواقع الذي يعيشه الإنسان المغربي خاصة، والعربي عامةً من حيثيات اجتماعية وسياسية وقيمية…
فظاهرة الصعلكة، كما هو معلوم، لها علاقة بمسببات اقتصادية واجتماعية أهمها الفقر والتفاوت الطبقي داخل بنية القبيلة، إضافة إلى إشكالية النسب، والتمييز العنصري على أساس الطبقة أو اللون…الخ ولهذا كان الخروج عن القبيلة فعلاً يدل على رفض بنيتها الاجتماعية، وتقاليدها، وقيمها التي تجردت من الإنسانية. والخروج كان له طابعٌ عنيفٌ تمثلَ في الفتك والإغارة.. كما كان له مظهرٌ فني تمثلَ في الخروج على تقاليد القول الشعري، فتغيرت بينة القصيدة، ولغتها، وموضوعاتها.. كما نلفي لدى عروة بن الورد، والشنفرى، وتأبط شراً… وغيرهم.
فالخروج بهذا الفهم تحقق على المستوى الاجتماعي والرمزي أيضاً. هو رفض للانتماء إلى بنية اجتماعية تنكرت لقيمها الأصيلة، وارتضت لنفسها قيماً لا إنسانية عبودية وتمييزاً، واستئثاراً بالثروة… ولكن الخروج يعني الانتماء إلى جماعة جديدة، وفكر جديد، ورؤية بديلة للواقع المرفوض. انتماء إلى جماعة الصعاليك التي آلت على نفسها إعادة تأسيس القيم الأصيلة كرما ونجدة ومساواة وعدلاً.. وتضحية في سبيل المعذبين في الأرض. وربما لم يكن أمام الصعاليك والفُتَاك من سبيل إلا الفَتك، ومُواجهة عُنف القبيلة بعنف أشدّ، ولكن غايته كانت إنسانيةً، وإن كان في هذا ملمحٌ من مفارقة.
ولا نعدم في الأدب الإنساني معادلاً للصعلوك بوصفه لصاًّ شريفاً، يأخذ أموال الأغنياء ليوزعها على الفقراء من الناس. وأشهر هؤلاء نذكر “روبن هود” في الأدب الانجليزي. وفي الرواية العربية الحديثة نلفي سعيد مهران بطل “اللص والكلاب” لجيب محفوظ، وشخصيتي لحسن أغونشيش والمغتصب في رواية “أغونشيش” لمحمد خير الدين.. هذا على سبيل التمثيل لا الحصر.
لكن الكاتب عادل أوتنيل وإن كان يتناص مع هذا التراث العربي والإنساني؛ فقد راهن على رسم عالم روائي متخيلٍ خاصٍّ يوازي الواقع المغربيّ، للكشف عن علاته الاِجتماعية، وأمراضه المستعصية التي لم يسلم منها مجال من مجالات الحياة، بل والموت أيضاً !
اختار الكاتب أن يشرك في البطولة مجموعة من المنبوذين في المجتمع، ليعطي لمن يقبع في الهامش الحق في التغيير، في واقع يستأسد فيه الفساد والمفسدون، ويغلقون كل منافذ الفعل، ويئدون كل إمكانية للإصلاح بوأد الثورات، وجعل كل ربيع خريفاً سابقاً لأوانه. إن التغيير الحقيقي لا يكون إلا إذا كان جماعياً، منظماً، يدفعُه وعيٌ يتسلح بثقافة تمكنه من اقتراح البدائل. فسعيد مهران فشل في تحقيق برنامجه السرديّ لأن فعلهُ كان فردياً في مواجهة الدولة بكامل مؤسساتها، وأغونشيش أيضاً كان منفرداً ولم يُغنِ عن فشله انضمام المغتصب إليه لغياب عنصر الوعي الثقافي.
جعل الكاتب شخصياته متفاوتة من حيث التحصيل الدراسي، فخمسة منهم لم يكملوا دراستهم (ما قبل الباكالوريا): علي الزواق، سعيد المهدي، رشيد العطار (طوطو)، أنور جلال، عزيز البهجان. وواحد منهم حاصل على الباكالوريا، وهو جواد كروم (النمر)، والأخير هشام أشرف (صعصع) حاصل على الإجازة في الأدب الانجليزي. يحترف هؤلاء السرقة، والسطو، وبيع المخدرات، ويتعاطون الممنوعات، باستثناء البطل علي الزواق.
ولكنه جعلهم على درجة من المعرفة بالواقع، والوعي بما يمور فيه من فسادٍ كان سبباً في تحطيم أحلامهم، ونبذهم على هامش الحياة، في هامش مدينة تنتمي أصلاً إلى المغرب المهمش “تزنيت”. كل شيئ محطمٌ، في مجتمع محطم: التعليم والسياسة، والدين، والعلاقات الاجتماعية (الخيانة، اللواط، انعدام التواصل، العنف…)، والأسرة المتفككة أوصالها بفعل الفقر، والتسلط الأبوي (علاقة علي المتوترة بالأب)، أو تسلط الأم ( اتهام المهدي لأمه بقتل أبيه)، هذا إن توفرت الشخصيات على أسرة تمتد جذور الهوية في تربتها، كما هو حال(طوطو) اللقيط، وسعيد المهدي يتيم الأب..
ولم يتلق هؤلاء وعيهم من مدرسة الحياة وبداغوجيا المعاناة بوصفهما أكبر مؤسستين للتربية والتعليم، وإنما انضاف إلى ذلك وعضده لقاؤهم بالطلبة من خلال شخصية هشام أشرف المجاز، ومن خلال سرقة طوطو لطلبة احتضنوه، كما احتضن رؤوف علوان سعيد مهران وفتح عينيه على أن سرقة أموال الأغنياء حلالٌ، بل واجبٌ لابد من القيام به. إن طبقة الطلبة في الرواية هي مهد للنضال، وللوعي السياسيّ الرافض للتدجين بكل تظهراته: مهزلة الإنصاف والمصالحة، والمخطط الاستعجالي، ووأد الربيع العربي في نسخته المغربية، وأوهام الديموقراطية والتغيير… الخ
االفضاء: الهامشيُّ مركزاً
يتشكل الفضاء الروائي من الأمكنة التي تتحرك فيها القوى الفاعلة، وتقع فيها أفعالها، ويتشكل وعيها في أحيازها، من خلال ما تختزنه الذاكرة حولها، وما يسكن الذات من مشاعر تجاهها. وما من ريب في أن من معالم الرواية الناجحة عنايتها برسم فضائها الخاص. وعادل أوتنيل على غرار رواد الرواية الواقعية (نذكر زفزاف نموذجا مغربياً) يهتم بالأمكنة الهامشية، فيضعها في مركز الاهتمام. يتقابل في “تزنيت” الأحياء الراقية مع الأحياء الهامشية حيث تعيش شخصيات الرواية الأساس، وبالأخص الصعاليك السبعة.
يفتتح السارد الأحداث داخل أسوار مدرسة ابتدائية منغلقة على نفسها، وعلى أحلام أطفال كزهور تتهددها الحياة القاسية القابعة غير بعيد عن سور المدرسة. منذ البدء هناك الإنسان المهدور، هناك حضور الغياب الفادح الذي يلاحظه المعلم: غياب “علي الزواق” الفتى النبيه المتوقد ذكاءً الذي لم تتسع له قاعات الدرس بسبب الفقر، وسطوة أبٍ يفكر في قوت فراخ زُغْبِ الحَواصل، وفي من يعينه على إعالتهم. وجود “علي” خارج أسوار المدرسة ينبئُ القارئَ بأن كل ما سيأتي سيكون مبنياً على التهميش، سيقعُ خارج الأسوار. إنه فعل الخروج الذي سَنَّهُ الصعاليك الأُوَل لكي يبنيَ أسس انتماء جديد قوامه البحث عن إنسانية الإنسان.
وإذا استضأنا برؤية فوكو للمؤسسة في علاقتها بالسلطة بوصفها تطويعاً للفرد، أو إقصاءً له كذات؛ أمكننا أن نرى في وجود طفل مثل “علي” خارج المدرسة إقصاءً لحقه في التعليم والتعلّم. والأمر نفسه يمكن قوله عن مؤسسات أخرى خاصة مؤسسة الأسرة المفككة أوصالها داخل الرواية كما في الواقع. يعيش الأبطال السبعة، بل جل الشخصيات، خارج أسوار البيت الأسريّ، ويجدون صعوبة في الانتماء إليها بعدما فقدت دورها لأسباب اقتصادية (الفقر)، ولأسباب اجتماعية تتعلق بتفسخ قيم المجتمع، وانفصام عُرى التواصل بين أفرادها (تسلط الأب أو تسلط الأم، أو غيابهما بالنسبة لطوطو اللقيط)، وهو ما يحول القيم السلبية إلى قيم لإثبات الذات (السرقة، الخيانة، الزنا، تعاطي الممنوعات…).
ما قلناهُ حول المدرسة والبيت بوصفهما فضاءين يؤسسان كل بناء مجتمعيّ ، أو يكونان علامة على تفككه وتفسخه؛ ما قلناه يصح على الفضاء العام الذي يحتضن أحداث الرواية، مدينة “تزنيت”. هي عنوان على المغرب غير النافع، المهمش في الجنوب المهمش. وقد جاءت الإشارة الوحيدة ربما إى المدينة في الفصل الرابع (ص: 23) في ارتباط بتحديد موقع “قصر المُتعة” أو القصر المهجور. قصرٌ شُيد في زمن الحاكم الحسن الأول. أي في عصر الإصلاحات الأولى التي اشتهر بها سلطان كان عرشه على صهوة حصانه، كما قيل. إن فعل الإصلاح هناك يتلخص في إحاطة المدينة بالأسوار، بكل ما تحمله من دلالات الحماية، ودلالات الأسر أيضاً.
وللدخول إلى القصر الذي يعاني من التهميش أيضاً، بسبب الإهمال، والاستهانة بالذاكرة الجماعية ومآثرها، يتطلب الدخول إليه تسلق السور، أي تجاوز الحد الفاصل بين فضاء المهمشين السبعة (المزابل، المنزل، كوخ بوقرعة…)، وفضاء المدينة التي لفظتهم، كما فعلت المدرسة من قبل ( المقهى، سينما أومبير، دكان النجارة، الملاح، فيلا البرلماني…).
أن يلتقي اللصيلصون في قصر أثري، لا شك أنه يدل على وجود الفوارق الطبقية منذ القديم، منذ الإصلاحات الأولى، دون أن يتغير الوضع فيما يُدعى من إصلاحات لاحقة، و أخرى موعود بها في الحاضر والمستقبل. العودة إلى التاريخ من منظور المهمشين فيه إعادة نظر في الواقع المغربي والعربي (الربيع العربي، الإنصاف والمصالحة…)، وهو منظور تحدده رؤية عبثية للعالم انطلاقاً من ارتباط النقاش بالخمر والحشيش في جلساتٍ تذكرنا حتماً بأبطال روايات نجيب محفوظ العبثية، من قبيل: ثرثرة فوق النيل. لكن تلك الرؤية سوف تتطور إلى سعي فعلي للتغيير، انتقالاً من تغييب الوعي والابتعاد عن الواقع (الاغتراب) إلى إذكاء الوعي بالتغيير وضرورة الانتماء والالتزام من خارج كل المؤسسات الفاسدة سياسية واجتماعية ودينية.
< بقلم: عبد اللطيف السخيري