انطباعات أولية حول الدراما الأمازيغية في رمضان

ملاحظات مشاهد تلفزيوني..

انتظر الجمهور الأمازيغي والمغربي عموما، بعد الإعلان عن برامج رمضان، ما ستجود به قريحة التلفزة المغربية هذا الموسم. فبينما اجتمعت الآراء التقييمية على هزالة إنتاجات السنوات الأخيرة الماضية – على الأقل – على صعيد مستويات الأداء والتقنية والمضمون، وخاصة تلك التي بثت على القناتين الناطقتين “بالدارجة”. فقد تمكنت القناة الثامنة “الأمازيغية” من تغطية بعض من الفراغ الحاصل في الإبداع الأدبي والتقني التلفزي عبر مجموعة من الإنتاجات المستحسنة شكلا ومضمونا.

ومن بين هذه الإنتاجات نجد “سلسلة بابا علي”.. هذه الأخيرة وبالرغم مما تلقته من انتقادات مختلفة المرجعية، سواء من قبل المتلقي العادي أو النقاد أو من قبل بعض الفنانين الأمازيغ أنفسهم.. إلا أنها حصدت نسبا عالية من المشاهدات، وتربعت على عرش “الترند التلفزي المغربي” بما يحمله هذا المفهوم من سؤال، كما لاقت استحسانا عاما لدى المتلقي. والحقيقة أنه بالرغم مما يعتبر مساوئ طالت هذه السلسلة، إلا أنها فندت أسطورة سطوة الإنتاج “الدارج” على متابعة المغاربة، سواء منهم الناطقون باللغات الأمازيغية أو ذوو الألسن الدارجة، والذين غادروا تفاهة القنوات المذكورة إلى أحضان قناة تمزيغت وفي ساعة الذروة الرمضانية.

 

ولقد شكل نقد الأخطاء التي سقط فيها منتجو سلسة “بابا علي” في المقام الأول، انعكاسا لمستوى الوعي الجمعي الأمازيغي خاصة، والذي اتجه إلى الوقوف على الأخطاء التاريخية والثقافية والسوسيو – أنتروبولوجية.. هذا الوعي الذي – في مستوياته الدنيا – استهجن الغلو في إظهار الإنسان الأمازيغي في صور “اللصوصية” و”الخبث” و”المكر” و”قطع الطريق”، المرفوقة بالغباء وسوء الطالع… وغيرها من ذمامة القيم.. وفي مستويات أخرى، وإن كان النهل من خلاصات الإبداع الإنساني الكوني في درجات معينة، مستساغا أو مقبولا، فإن النقد الموجه لهذه السلسة وقف أيضا عند مدى إبداعية كاتب السيناريو، ويرى أنه استمد أغلب أحداث السلسلة ووقائعها من عمل درامي آخر معروف، وإنه غارق في القص الفانتازي الذي يمكن تمديد أحداثه إلى ما لا نهاية.. وإنه لمن السهولة على المرء أن يلامس حضور هذه الصفات في هذه السلسلة، منذ حلقتها الأولى!

وفي المقام الثاني، حفز هذا “السقوط” مختلف الفاعلين في هذا الميدان “الموسمي” وأيقظ فيهم موهبة التنافس الإبداعي التلفزي الأمازيغي المؤسس على القراءات العلمية للأحداث والوقائع التاريخية التي يمكن تحويلها إلى صناعة تلفزية محترفة، تحترم الذوق والجمالية، وفوق ذلك تأخذ بعين الاعتبار خصائص وخصوصيات الهوية و”الانتمائية” الثقافية المغربية الأمازيغية.

وكما هو الشأن في جميع مجالات الإبداع/ المعرفة، يبرز في معظم الأحيان وتلقائيا وعلى الأقل اتجاهان رئيسيان مؤسسان على قاعدة ذات عنصرين مختلفين حد التناقض هما؛ “الإبداع” و”الاسترزاق”. إذ إنه في سياقنا التكنولوجي الشبكي الإعلامي المسمى قسرا “اجتماعي” (Social media) قد دحضت القيم الإنسانية والإنسانية الفنية، وانطلق الإنسان بإنسانيته نحو زوال!! محكوما بعنصري تناقض الإبداع والاسترزاق، كجدلية فلسفية تاريخية.

“إليس ن ووشن”.. الزلات غير المتوقعة

كثيرا ما أمتعت فاطمة علي بوبكدي جمهورها المغربي “الواسع” بأعمالها التلفزية المرموقة طوال مواسم عديدة.. لقد جعلتها أعمالها المحترمة الناطقة بالدارجة والمستوحاة من عبق التاريخ والتراث المغربي الأمازيغي، تحظى بتقدير الكبير والصغير من مختلف الأصول الاجتماعية واللسنية… فكان عملها الجديد محط انتظار الجمهور!!

لقد قدمت التلفزة الثامنة وصفا عن هذا المسلسل عبر موقعها الإلكتروني على الانترنيت، جاء فيه ما يلي: “مسلسل تـاريـخـي يزاوج بـيـن الـدراما والـكـومـيـديـا، ويـحـاكـي عـالـما ملـيئـا بالغموض والأسـرار، مـنـطـلـقـه من فكّ لـغـز اختفاء شـخـصـيـة مـهـمّـة اسـمـهـا “أوشّن”، وهـو أحد كبار العلماء، الـذي اخـتـفـى فـي ظـروف غـامـضـة واخـتـفــى معـه السـر الأكـبـر الذي كان يشغـل بـالـه وتفكيـره طوال حـيــاتــه، ولـم يـتـرك وراءه أثـرا يـسـتـدل بــه سوى لغز مبهم، عبارة عن ورقة جلدية تحمل نجمة ثمانية، ورؤوسها مكونة من رسومات غامضة، وهـي مجرد تلميحات ملغزة، وبمـثـابـة المفتاح الوحيد لاكتشاف الطريقة الصحـيـحــة لفتح “القلعة المنسية” الـتـي تحتفظ بداخلها بمفاتيح أسـرار العالم القديم”.

إن هذا الوصف ليبدو في الواقع مثيرا stimulus وجذابا ويغري بالمتابعة، وفوق ذلك فإنه يحمل تعبيرا ما ينتظره الجمهور، سيما بعد الانتقادات التي طالت الأعمال التي مضى بثها خلال المواسم السابقة، أي إنها على الأقل، ستتجاوز ما يبدو على أنه اتفاق عام التقت حوله جميع الآراء، ألا وهي؛ النمطية والتكرار والابتذال، وتواضع الأداء والتقنية، علاوة على زلات التشخيص…

ومن خلال حلقتها الأولى يتضح أن سيناريو المسلسل يأخذنا إلى عالم الفانتازيا، الذي سينقلنا بدوره من عالمنا الواقعي إلى عوالم الأسفل والأعلى: قصص معروفة ومتكررة حكيا مرويا، شفهيا أو كتابيا أو مرئيا؛ تنتقل فيها الأحداث من هذا العالم إلى عوالم إما مستقبلية أو ماضية بما تحمله من خوارق وظواهر “فوق – طبيعية”. وبالفعل ليس في هذا، بأي وجه، عيب قد يجعلنا ننتقص من العمل برمته، فقد أنتجت أعمال كثيرة في نفس الخط أو الاتجاه، أعمال ضخمة حازت على جوائز عالمية، وليس أقلها “سلسلة هاري بوتر”.

وهكذا فإن الخزانة الفنية الكونية تكتنز أعمالا كثيرة تلتقي على نفس منطق “إليس ن ووشن”. لكنها متجاوزة للتكرار في الأحداث والوقائع، وبصفة عامة في الموضوع. لقد بدا لي شخصيا من خلال متابعتي للحلقة الأولى من هذه السلسة، بالرغم مما أشرنا إليه فيما سبق؛ أن المخرجة قدمت لنا صورة عن أحداث عادية وطبيعية انطلقت من واقع يحمل أوصاف واقعنا المعاش، تنخرط فيها شخصيات بملامح فيزيائية واقعية، سرعان ما يتم إسقاطها بسرعة الضوء في عالم الماضي “المجهول”.. إلا أن هذه الأحداث تثير منذ الوهلة الأولى خوفا وقلقا من إعادة شخصية “عيشة الذويبة” في صورة جديدة؛ وهذه المرة باسم “إليس نووشن” وبلسان “تشلحيت” وفي عالم غير عالمنا الواقعي. والتخوف هذا زكاه مشهد سقوط فتاة في الأسر على يد شخصية يبدو من خلال مجلسها وقوتها في فرض الأوامر أنها تمثل شخصية تنتمي إلى حقل السلطة والحكم، وظهر وهو يحذر حرسه الذي ولاه مهمة تسليم الأسيرة إلى الحاكم “المامون”، من أن يسقطوا ضحية لخداع الأسيرة الداهية حد المكر، والتي يمكن لها بمكرها أن تفر منهم، وأن لسانها لوحده كاف أن يخلصها من أي مأزق تسقط فيه نفسها الخ… أي إنها نفس خصائص وسمات الشخصيات التي لعبت أدوارها الممثلة سناء عكرود في سلسلة “رمانة وبرطال”، زيادة على ذلك ولغاية ما، وبالتأكيد ليس صدفة أن تم اختيار بطلة هذه السلسة شبيهة بالممثلة سناء عكرود في الملامح والهيئة الفيزيائية وحتى في الطبائع والانفعالات، وهي الممثلة نورة ولتيتي التي أدت الدور بنفس مهارة بطلة رمانة وبرطال.. وقد اتجهت حلقة السلسة الثانية لتثبيت هذا الأمر.

ولكن ومع مع توالي الحلقات، سار يتضح شيئا فشيئا مضمون الأحداث، وتتضح الوقائع ويختفي اللبس الذي حكم الحلقات الأولى، وصدق الوصف الذي قدمته القناة الثامنة لإليس ن ووشن، كعمل يحمل تجليات فكرة عبقرية حية وحيوية في عالم السينما والتلفزيون، أشرنا إليها سلفا وهي المزاوجة بين واقعين مختلفين ومتضادين، والتأليف بينهما في ربط مشوق للأحداث.. عمل وراءه، قصة وحوارا، الحبيب صبري وإبراهيم بوبكدي بمشاركة المخرجة نفسها، التي دأبت من خلال أعمالها الناجحة السابقة على مشاركة أفكارها وملاحظاتها وانطباعاتها كمشرفة أولى على العمل برمته.

 إلا أن الزلات لا تقيم المقاييس ولا تميز بين المجالات ولا تستثني في الشخوص أحدا.. فهي لا تخجل أن تتسلل إلى من مشهود لهم بالكفاءة والتميز في ميادينهم، فتصيب أعمالهم في مقتل. تلك كانت حالة المخرجة فاطمة علي بوبكدي في هذا الموسم، إذ وقع عملها في مطب العجلة والتسرع، وهذان الأخيران هما أعظم حليفان للسقوط. ولقد أكد ظهور عمود إنارة إسمنتي في أحد المشاهد في لقطة تشخص للزمن القديم دون أن تنتبه إليه المخرجة أو أي أحد من فريقها التقني، ما نحن بصدده.. فكانت هذه بالضبط، هي كبوة فاطمة علي بوبكدي وفريقها في “إليس ن ووشن”.

“أعطار”.. الانعكاسات القيمية، والقفزة النوعية!

 

أمام التحديات المذكورة، فإن الجمهور ينتظر بالفعل ما قد يزيل عنه غم سوء أو ضعف الإبداع الذي دام طويلا إلى أن سار ممقوتا أخلاقيا ومرفوضا اجتماعيا.. ومن الناحية القيمية… فإنه في انتظار ما يذكي لديه انتماءه ويعزز عنده هويته القومية ويجعله مفتخرا، سيما أن نسبا مهمة من المتتبعين، مهاجرون من البوادي والقرى الصغيرة يقطنون المدن والحواضر، داخل البلاد وخارجها (الجالية الأمازيغية بالحواضر الأوروبية…) و”قوميا” فإنهم يدركون وعيا وشعوريا ما يميزهم لسنيا وثقافيا، أمام الاضطهاد الرمزي والمعنوي الذي يواجهه لسانهم ومنه ثقافتهم في المراكز. وهو ما يفسر يقينا تعلق هذا الجمهور الشديد بهذا النوع من “الإنتاج السمعي البصري البدوي” الذي يعد السوسيون رواده على المستوى المغربي، وهذا الجمهور في عامته ذكي بطبعه، وله ميزات تجعله متتبعا مدققا فاحصا، وناقدا بوعي أو بغيره. وهو نفسه السبب الذي يجعله ينظر إلى نفسه وكأنه معني مباشرة بالعمل.. أي، وكأنه مشارك فيه وفي أحداثه وإخراجه؛ تكسبه بالفعل تلك العوامل الثقافية واللسنية المذكورة شعورا بالانتماء للمنتوج، تماما كما يشعر ويحس إذ يتابع مباراة فريقه المفضل، فهو اللاعب رقم ستة وعشرة وواحد وحتى المدرب ومساعده أيضا. وهو بهذا المعنى ليس مجرد جمهور متلق ومستهلك وفقط.. بل ناقد  يقظ، يقرأ المنتوج ويكون حوله وجهة نظر، وما حدة نقده و”سلاطة لسانه” أحيانا، إلا تعبير عن شوقه وتوقه إلى عمل مكتمل متكامل أنتجه “ولاد البلاد”، وبمثابة عدسة يرى فيها وعبرها وبها نفسه.

إن الاعتزاز “القومي” الذي رافق الصحوة الثقافية الأمازيغية الحديثة، والذي سارت ملامحه بارزة في الحواضر كما في القرى، ليتعمق بالتأكيد ويتذكى بما يصدر عن حاملي هذه الثقافة من إبداع في مجالات الآداب والفلسفة والفنون والعلوم… بفعل وقعها “النفسي – الاجتماعي” الثقيل وسرعة إشاعتها اجتماعيا خاصة إذا كان عملا خلاقا إبداعيا، ومتميزا مهنيا وفنيا، وموفقا تقنيا.

السيناريست لحسن سرحان مؤلف سلسلة أعطار

وفي هذا السياق، شاهدنا كيف تمكنت سلسلة “أعطار” – في ثمان حلقات فقط – من أن تروي هذا العطش لدى الجمهور الأمازيغي، بمعايير تجاوزت المحلي، وبات بإمكانه ألا يشعر بأي مركب نقص في هذا المجال، أمام أي مكون ثقافي آخر.

وباعتبارها إنجازا فنيا متميزا شكل قفزة نوعية في عالم الإنتاج التلفزيوني الدرامي الأمازيغي والمغربي بشكل عام، فإن النجاح الذي حققته هذه السلسلة يعود إلى التوفيق في إدارة العمل في جميع جوانبه الفنية، وتمكن أصحابه من الإحاطة بكل مقومات العمل الفني الناجح، انطلاقا من القصة/الرسالة: التي تمت كتابتها ببراعة، وتوفرت على عناصر الدراما والتشويق، وتميزت بوجود تيمة أو تيمات متعددة كعنصر إشكالي اجتماعي/ ثقافي/… يتعرض لها النص بمقاربة الوصف والتحليل ثم التغيير (طرح حلول).. وهذه قاعدة ترسخت في الإبداع الأمازيغي عموما، بفعل التزام أصحابه بقضايا جدية تشغل مركز اهتمامهم المتصل بالهم الهوياتي الذي تجرعوا آلام إغفاله لأزمان طويلة.

ارتباطا إذن بنفس هذا المستوى من الوعي والهم، فقد خلق السيناريست الحسن سرحان لموضوع حواره في “أعطار” قاعدة صلبة تقيه من الانفلاتات أو الحاجة إلى ملأ الفراغات التي تخلقها بعض الضرورات الحوارية أو التصويرية… لقد أكسب ذلك نصه ترابطا قويا في الأحداث والوقائع التي انسجمت تماما مع حبكته.

والحقيقة أن هذه الميزة تكاد تكون عرفا ثابتا في الدراما الأمازيغية، والأمر بالطبع يعود في المقام الأول إلى الإدارة المنتجة، ثم إلى حنكة صاحب النص. فبينما تولي إدارة قناة تمزيغت اهتماما مركزيا لمسألة تباث الموضوع ووجود الحبكة ثم الوضوح في القصة، فقد أظهر كثير من الأعمال الرمضانية في غيرها من “الوسائط” أنه يصعب أو يستحيل في أحايين كثيرة، أن تتلمس التيمة المركزية أو المحورية للنص.. فقد لاحظنا جميعا، في الكثير من الأعمال الدرامية، كيف تاه الجمهور بين أحداث متشابكة يسقط معها المخرج والمشخص معا، من حين لآخر، في معضلة التخبط لاسترجاع خيوط القصة وإعادة التحكم فيها وجعلها تنسجم قسرا مع بعض المشاهد المطنبة والغارقة في النشاز، حيث مع ضبابية الحبكة وتعدد أوجه النص والإخفاق في اختيار الروابط الفنية، يصعب لدى المتلقي تلمس قصة المنتوج وفهم محتواه ناهيك عن إدراك مغزاه، فالقاعدة هنا أن الثابت هو التيمة، والمتحول هو القصة أو النص بشكل عام. وكاستخلاص من ذلك، فإن توافق الهم والرأي في الدائرة المحيطة بالمنتوج الفني (من صاحب الفكرة إلى مبدع قصتها ومخرجها، مرورا بمنفذها، وصولا إلى مستقبلها ومنتجها الإداري والمهني) هو الضامن الموثوق بخصوص مستقبل الإنتاج الدرامي الأمازيغي من طينة سلسلة “أعطار” كعمل استثنائي في هذا الموسم.

 

 

سلسلة “أعطار”، إذن، عمل يمثل انعطافة مهمة في مسار وسيرورة تطور الإنتاج التلفزيوني الدرامي الأمازيغي والمغربي عامة، ويعكس التطور الفني والثقافي الذي يشهده هذا الميدان، وهذا الجانب من نجاح سلسلة “أعطار” مرده توافق الشكل والمضمون، أو التقنية والرؤية والمحتوى، أو بعبارة أخرى تناغم عنصرين أساسيين وهما؛ “الأهلية الإخراجية عالية المستوى” (رؤية واضحة للمقدمة والخاتمة، فهم واضح للقصة، إدراك تام لمقومات إنزالها عمليا) و”قوة وأهمية الرسالة الثقافية والهوياتية التي تحملها هذه السلسلة”.

إن الأداء الرائع والإنجاز الإبداعي الحاضر بامتياز في أي عمل ناجح يجعلك ترى بوضوح كل مكوناته وعناصره الموفرة لهذا النجاح، كما يتيح للمتلقي المهتم أن يرى بنفس الوضوح حتى الهفوات الدقيقة أو الأخطاء الصغيرة التي لا يمكن ملاحظتها في الأعمال الضعيفة، حيث تحجبها الكبائر.. ولذا يمكننا بكل سهولة أن نرى كيف أحاط القائمون على إنتاج هذه السلسة بكل مقومات الإنتاج الدرامي المؤسسة على قواعد العناصر المركزية للنقد السينمائي، بما هو عملية تحليل وتقييم وتذوق المنتوج الفني بشكل عام والدرامي والسينمائي بشكل خاص من جميع جوانبه؛ من حيث القصة والإخراج والموسيقى التصويرية والتمثيل واللغة والإضاءة والزوايا والفضاءات المشهدية والمونتاج إلى غير ذلك من مكونات وأسس العمل الفني والدرامي والسينمائي…

والواقع أنه وبفضل انسجام التجربة الفنية والمهنية والتكوين الأكاديمي، استطاعت مخرجة سلسلة “أعطار”، إلهام علمي (المغربية الفاسية)، أن تقدم “للشلوح” منتوجا فاق التوقع، إذ إن السلسلة تكاد تخلو من المطبات إلا قليلا، والأمر راجع إلى الكفاية والكفاءة الإخراجية للعمل، والتي لم تترك صغيرة وكبيرة إلا وراعتها؛ انطلاقا من الكاستينغ الذي وفق في اختيار الممثلين بعناية فتحققت الأدوار بأفضل شكل، إلى الاختيار منتهي الدقة للألوان والإنارة والخلفيات وزوايا الرؤية والكوستيم والصوت والأكسسوار وغيرها من ميكانيزمات تعزيز الجو العام للمشاهد والشخصيات.

لقد جعلت المخرجة إلهام علمي من عملية التربص بالهفوات المألوفة في المنتوج الفني المحلي (التي بتكرارها طبع معها الجمهور ولم تعد ترى له) نقطة قوة، ساعدتها على تجويد العمل وتحفيز الممثلين لتقديم الأداء المطلوب. فاجتهدت وتوفقت حتى في بعض التفاصيل الدقيقة والصغيرة، وليس أقلها لغة نص الحوار مثلا، حيث تم اعتماد لغة سليمة ومفهومة وعميقة وغير مبالغ فيها، سواء في شقها المنطوق أو الإشاري – الجسدي. اللغة السليمة والمتوازنة هي وسيط شعوري بين المتلقي والمشخص يمكن أن يؤدي إلى تحقيق تأثير عاطفي ويجعل العمل الفني يبدو واقعياً ومقنعاً، في حين أن الاستخدام المفرط لملامح وتعابير الوجه والانفعالات الجسدية (المبالغة في استعمال ثنايا الوجه…) يؤدي تلقائيا وبلا شك، إلى البهلوانية والابتذال.

حول “مأزق” القناتين الأولى ودوزيم

بعد الانفتاح الشعبي للمغاربة على جهاز التلفاز، انضافت إلى عاداتاهم الرمضانية مسألة أخرى، تقوت أكثر مع ظهور السيتكوم المحلي عام 1998 وهي الإقبال الاستثنائي على الدراما التلفزيونية الوطنية.. ومذاك بات الأمر يتسلل إلى ممارستهم اليومية، من فئة إلى فئة إلى أن استحالت لمسألة محظ ثقافية جماعية/ عائلية وليست فردية. وهي بذلك تكتسب مقومات مفهوم “العادة” التي تجعل ملايين المغاربة يتجهون إلى الشاشات لمتابعة الأعمال الدرامية التي تعرضها القنوات الوطنية خلال كل رمضان. ولا شك أن هذه العادة تتعمق عاما بعد آخر..

سيلاحظ أن الكلام هنا كله يتمحور حول الإنتاجات الأمازيغية المبثة على القناة الأمازيغية… والملاحظة وجيهة وهي تقف على اعتبارين اثنين: سيرورة استكمال دورة الانحطاط الذي تسلكه المؤسستان الأخريتان، الأولى ودوزيم، (حيث الابتذال التام والنمطية)، والاعتبار الثاني هو الاتجاه نحو الاكتفاء من أداء دوريهما، كقناتين عموميتين، بما يحمله الإعلام العمومي الوطني من معنى.. والاتجاه نحو التماهي المنهجي مع “وسائل التواصل الاجتماعي” في المبدأ والغايات والوسائل والمنهج، محكومتان بـ “هادشي اللي بغا الجمهور” على غرار المقولة المصرية الشهيرة “الجمهور عايز كده” كمبدأ صار سائدا في هذا الوسط؛ ويبدو هذا أكثر فيما يسمونه أو يعتبرونه “برامج ثقافية أو تعليمية أو تربوية” في حين يتم الإمعان في تمييع وتتفيه البرامج الحوارية..

أما في ميدان التشخيص والتمثيل وعموم الإنتاج التلفزي الدرامي فنجد السير على نفس المنوال السطحي والتبسيطي، حيث تمضي القناتان في الغرق في الدراما المسماة اجتماعية والتي يتناول معظمها أو كلها نفس موضوع الحبكة والإشكالية وحتى الحلول (هذا إن كانت هناك حبكة أصلا وإشكالية واضحة تستدعي حلا واضحا).. والإشكال طبعا ليس في هذا المقام وحسب، وإنما في التعلق الجامد بنفس النوع من الإنتاج الدرامي الذي خلق انبهارا لدى المتتبع في البداية، بعد انفتاح التلفزة المغربية على هذا النوع و”تحديثه” ليلائم عقلية المشاهد المغربي الذي تأثر كثيرا بالدراما التركية وقبلها المكسيكية في التسعينات، فكان على المنتوج الدرامي المحلي أن يساير مستوى غيره المذكور، وقد وفق بالفعل، ولكنه سرعان ما أصبح مألوفا إلى أن أضحى متجاوزا ولم يعد يستهوي أحدا في الجمهور “المعاصر” المواكب للتطور الرقمي والمعلوماتي الحديث.

ولما سار ضعف الإنتاج التلفزيوني شكلا ومضمونا محط إجماع وإدانة شعبيين، فإن النقد السينمائي يشخص واقعه بتجدد الضعف والإسفاف والابتذال والتفاهة كل سنة، كما لاحظ ذلك الناقد زويرق، الذي يرى أن هذه الأعمال، رغم أنها تمول من طرف دافعي الضرائب، إلا أنه لم تقم أي جهة مسؤولة باتخاذ مبادرة لتحسين جودة هذه الأعمال. وذلك راجع إلى ضعف الإبداع في الكتابة والإخراج والتصوير والأفكار.. ويعتقد الناقد زويرق أن التشخيص هو السبيل الوحيد للوصول إلى المشاهد، رغم تكرار الوجوه ونمطيتها؛ كما يرى أن نسب المشاهدات والأرقام التي يتباهى بها صناع الأعمال الدرامية لا تعكس إقبال المغاربة على هذه الأعمال، إذ لا تعكس روح المشاهد المغربي وواقعه وهويته.

قناة تمزيغت.. التميز في وجه التمييز!

لنتساءل في البداية: هل يعلم المواطن المغربي أن مدة البث التلفزيوني العمومي الأمازيغي لا زالت محددة في ست ساعات فقط منذ إنشاء القناة الوحيدة سنة 2010، وأن الحكومات جميعها لم تجرؤ على تمويل الست ساعات المتبقية لتحقيق 12 ساعة؟!

كم من وقت وزمن يلزمنا الاستمرار في هدره قبل تحقيق دورة يوم كامل من البث؟ ومتى سنبلغ إلزامية القنوات الأخرى لتخصص للأمازيغية نسبتها في أنشطة البث؟ وهل يعلم المشاهد المغربي أن ما يرى اليوم وما يبث على الشاشة الأمازيغية، إنما يتأتى بسبب تضحيات واجتهادات العاملين بها والصحفيين والإعلاميين…؟

ألا يستحق التلفزيون الأمازيغي نصيبه من الدعم، بإحداث صندوق لدعم المنتوج الأمازيغي على غرار الصندوق المحدث لدعم الإنتاج في الإعلام الحساني، ولعل من شأن ذلك أن يحد من بعض مظاهر المنافسة غير الشريفة بين المنتجين والفنانين الأمازيغ بفعل إكراهات الندرة؟

وهل يعلم المشاهد أنه قد سجلت حالات كثيرة تحرم منها الحكومات الصحفيين العاملين بتمزيغت من الدعوة لحضور وتغطية الملتقيات والتظاهرات الدولية؟

هل يعلم أن ما يروج حول تخصيص نسبة 30% في دفتر تحملات “الهاكا” المخصصة للبث الأمازيغي لا يعدو أن يكون مجرد فكرة – طموح في أذهان المهنيين والمناضلين؟ دون الحديث عن الاعتبارات الأخرى كموضوع الترجمة إلى اللغة الأمازيغية باعتبارها لغة رسمية للشعب وجب اعتمادها في كل الوسائط الإعلامية العمومية…

فاطمة بوبكدي مخرجة مسلسل إليس ن ووشن

يلزمنا أن نعلم أيضا أن هذا غيض من فيض فقط، ومع ذلك فبإمكاننا أن نلاحظ بيسر كيف تجتهد هذه المؤسسة (قناة الثامنة) متحدية كل هذا الحجم من الإكراهات، لتحاول الإجابة على انتظارات الجمهور الأمازيغي وترضي ميولات فئاته المتنوعة والمتباينة، بما هو متلق ذو طباع نقدية حادة يوجهها بقوة أكبر، لمن يحوز وإياه نفس المشترك اللسني أو الثقافي…

وبناء على ما درجنا على ذكره فيما سبق، وفي مقابل كل مظاهر التمييز تلك، يمكن القول إن قناة تمزيغت تتميز بميزات فريدة تجعلها تتبوأ موضعها في طليعة القنوات الإعلامية في المغرب. ومنطلق هذه الميزات تشمل أولا، الإدارة المهنية الكفؤة، التي شهد معها الإعلام الأمازيغي طفرة جديدة في مسار تطوره، مع تولي السيد عبد الله الطالب علي مسؤولية تدبير وتسيير القناة  وتطوير خطها في البث والتحرير..

 ولقد أثبتت استراتيجية إسناد المسؤوليات الريادية في المؤسسات والقطاعات العمومية من حجم الإعلام مثلا، إلى (ولاد الدار) من أبنائه المتدرجين من مختلف الرتب والأقسام والمهمات والوظائف، أنها تمثل خيطا ناظما يجمع بين المهني والإداري بما هما قطبا نجاح مؤكد مؤسساتيا. فالسيد الطالب علي عرفه الأمازيغ تاريخيا عبر أثير إذاعة المملكة المغربية بالرباط منذ الثمانينات، وهو القادم من “عمق اللغة والثقافة الأمازيغيتين” وخبر العمل الإذاعي مهنيا ثم أكاديميا. فسبر أغواره مذيعا ومعدا للعديد من البرامج الغنية بالمواد الثقافية المتصلة بالأمازيغية، ثم من خلال مسؤوليته على البرمجة وتدبير البث في الإذاعة الأمازيغية، وإشرافه على رئاسة تحرير النشرات الإخبارية التي كان أول مقدم لها… ومن خلال ذلك، وعبر مساره الطويل ومحتويات مواد برامجه الغنية والجادة، كان بحق مساهما في التأطير الثقافي للمغاربة (تميزت برامجه بالجدية والالتزام في البحث عن المادة المذاعة، ومنه مثلا النبش في أعماق الذاكرة المعجمية، والليكسيك اللهجي الأمازيغي من خلال ما نسي وما ووري من الإبداع الشعبي الشفهي… ولازال ملتزما وفيا لجمهوره بالرغم من مسؤولياته الإدارية المتشعبة في اتباع نفس مبدأ البث والتحرير، ولعل استمرار برنامجه المخضرم “سموزغ أوال” دليلا على ما نقول). وكان بالإضافة لذاك “مربيا” ومكونا لجيل من المغاربة الأمازيغ في الوطن وخارجه، لما للراديو حينها من قوة التأثير سيما وأن تلك الفترة معروفة بندرتها ومحدوديتها في وسائل الإعلام.

وككل اجتهاد ينتهي بإنجاز استثنائي، فإن من ورائه قوة المبادرة و”جرأة في التجديد”، وهذا ما يفرضه قانون التطور في أي مجال. والتجديد فيه، هنا، يقتضي الشجاعة والتضحية ونكران الذات، والاستعداد لجبهات المواجهة مع المحافظين والخصوم “الإيديولوجيين” والمنافسين الكسالى أفرادا أو تكتلات، والذين تلتقي مصالحهم عند استمرار الحال على ما هو عليه، ويرعبهم التطور والتجديد خشية أن تفضح حقيقة أهليتهم أو تمس امتيازاتهم، فيواجهون أي رغبة في الإبداعية والابتكار والتجديد بأي وسيلة حتى ولو كانت خارجة عن الأخلاق.. لذلك وجب تثمين أي عمل جاد موفق في بلوغ أهدافه، والوقوف معه ضد خصوم التميز وأعداء تنامي مكتسبات الأمازيغية.

المنطلق الثاني لهذه الميزات هو طبيعة العنصر البشري؛ والانتماء القيمي الثقافي الأنثروبولوجي للتجمعات الأصولية والأصلية التي يتحدرون منها. أي إن الإقصاء الثقافي والتهميش اللغوي الذي عانت منه هذه التجمعات والتأثيرات المعنوية لذلك، بات وازعا يرافق أبناء مناطق البوادي والهوامش والقرى الصغرى العصاميين، خاصة في الجنوب والجنوب الشرقي والريف والوسط (حيث التجمعات اللغوية الأمازيغية الكبرى) يجعل المنخرطين في العمل الإعلامي الأمازيغي عموما ينظرون إلى هذا الأخير، كمسؤولية أخلاقية ومبدئية يحكمها الهم الهوياتي ورد الاعتبار للثقافة واللغة المقصيتين.. وهو أمر إيجابي ينسحب على باقي المجالات، فقد غذته استنتاجات العمل البحثي والدرس الأكاديمي لأبنائه بعد الانفتاح على الجامعات الأوروبية والغربية (منذ السبعينيات) والتي أتاحت لهم فرص الاتصال بعلوم الإنسانيات كاللغات والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، والتراث والآثار وغيرها، فتمنهجت الصحوة الثقافية بفعل ذلك وانطلقت لتشمل معظم بلدان شمال إفريقيا.. ولذلك فالوازع الأخلاقي والمبدئي حاضر بقوة لدى فرق قناة تمزيغت، قبل أن يحسب ذلك وازعا مهنيا.

10 أبريل 2025

بقلم: لحسن أوزغربلت

كاتب وباحث في اللغة والثقافة الأمازيغية

Top