يسجل كثير من المتابعين لشأننا السياسي الوطني أن الموقف الذي اتخذه المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية وتضمنه بلاغ اجتماعه الاستثنائي الأخير عقب ما شهدته البلاد من تطورات في الأيام الأخيرة، حضي، بشكل عام، باستقبال إيجابي وتنويه من لدن الطبقة السياسية والمحللين الجادين وجمهور واسع من المهتمين، وذلك عكس بعض الكتابات التي عرف عنها انتظارها الدائم للحزب في”الدورة”، والتهجم عليه وعلى قيادته، بغض النظر عن كل الظرفيات أو السياقات، وعن أي شيء آخر، ومن ثم مثل هذه المواقف تبقى معروفة ومنتظرة وبلا نزاهة أو قيمة.
لقد سجل بلاغ المكتب السياسي للحزب احترامه للقرار الملكي، وفي نفس الوقت، نوه بأداء وزرائه ونزاهتهم ووطنيتهم، ثم قرر عرض أمر استمراره في التخالف الحكومي أو عدمه على اجتماع استثنائي للجنة المركزية “الهيئة التقريرية التي كانت صوتت على قرار المشاركة في هذا التحالف”، وإذا لم تكن هذه هي عناوين ومحددات السلوك المؤسساتي الديموقراطي المطلوبة في مثل هذه المحطات، فما المطلوب القيام به غير هذا؟
أحيانا يكون سهلا لوك الكلام والتنظير خلف الحاسوب ومن خارج أي التزام، لكن هناك ظرفيات دقيقة تفرض على حزب مسؤول صياغة موقف ذكي ورصين كما لو كان يمشي فوق حبل ويجب ألا تزيغ قدميه وألا يهوي إلى الأرض، وهذا ما يميز الفاعل السياسي المسؤول الذي يفكر في مصلحة البلاد، وفِي المستقبل، ويستحضر مختلف التفاصيل وموازين القوى وحيثيات الواقع كما هي على الأرض بلا شعبوية أو تحليق في السماء أو إفراط في حسابات الذات.
لقد نجح بالضبط عدد من المحللين في التقاط هذا من بلاغ المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، وأيضا من خلال قياس مواقف أطراف حزبية أخرى، أو استحضار محطات مماثلة في التاريخ القريب والبعيد للبلاد، ثم خلصوا الى التنويه بذكاء الحزب التقدمي واتزان موقفه.
اليوم، لا بد أن ننتبه إلى أن ما يحيط بحقلنا السياسي الوطني منذ مدة لا يرتبط بأنانيات فردية أو بإصابة نفسيات أشخاص، ولكنه يهم أشياء أكثر جدية وعمقا…
ولو كان الأمر منحصرا فقط في الأشخاص، لكان التقييم العام لأداء وسلوك وزراء حزب التقدم والاشتراكية كافيا وأكثر بلاغة في التعبير، فلا أحد يشك اليوم في نزاهتهم وصفاء ذمتهم، وهذا وحده ليس بسيطا أو بلا أهمية في معركة بلادنا ضد الفساد والريع ولوبيات الضغط.
بلاغ وموقف حزب التقدم والاشتراكية، كما انتبه الى ذلك بعض المحللين الموضوعيين، يجب، في الحقيقة، أن يمنح لطبقتنا السياسية ولكل الغيورين على مستقبل وطننا مساحة للنظر والتأمل والتفكير في القضايا الأكثر أهمية، أي تلك المتعلقة ببناء الديموقراطية وترسيخ المؤسسات وتطبيق مقتضيات الدستور والسعي المستمر لتطويرها.
التنافس لا يكون في لوك الكلام، وفِي المزايدات والرفع الأرعن لسقوف المواقف، والإصرار المرضي على “قتل” حزب استمر دائما يلح على استقلالية مواقفه وقراراته، وعلى تميز هويته.
يكفي اليوم أن نقارن ما تضمنه بلاغ المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية وما صدر عن هيئات وطنية أخرى، ويكفي كذلك أن نقيم مسار المواقف السياسية التي تبناها الحزب التقدمي ومواقف آخرين منذ انتخابات سابع أكتوبر وما تلاها أو ما سبقها حتى، ونقارن أيضا الوضعيات والنتائج، فهذا التمرين من شأنه إجلاء ضباب الكثير من “التشيار” الذي صار هذه الأيام في مرتبة… الجهل.
هناك من يروج، عمدا أو جهلا، لكلام لوبيات مختلفة كان يزعجها باستمرار وزراء حزب التقدم والاشتراكية، وهناك من لا يقرأ أبعد من السطور ولا ينفذ إلى ما وراء الكلمات، وهناك كذلك من خرج من الجحر للتشفي وتوزيع السباب والشتائم تفريغا لعقد شخصية أو انتهازية، وهناك من داس على كل شيء لينادي بالعودة إلى الخلف، وبلغة غريبة جدا هو لم يعد يولي أهمية لأي بناء مؤسساتي في البلاد، أو فصل للسلط، أو دستور، وبات “منظرا” متحمسا للنكوص والتراجع، ويضيف لذلك “تخراج لعينين”، وهذا الصنف هو من يجسد اليوم خطرا فعليا وحقيقيا على البلاد ومستقبلها.
لقد عاش حزب التقدم والاشتراكية محنا أخرى في مراحل مختلفة، وبعضها كان أكثر صعوبة، وكان يتجاوزها دائما بوحدة صفوفه، وبقدرته على التركيز على الأهم وعلى القضايا الرئيسية، وباستحضاره لمصلحة البلاد أولا، أي أنه يعبر الصعاب بالوحدة، والانتباه الجماعي، وبتمثل سلوك المناضلين الحقيقيين، وهذا ما يميز الحزب عن قوى أخرى.
أما من يسعى هذه الأيام لجر الحزب بكامله لتحريف النقاش المطلوب، وتحويله من قضايا البلاد ومستقبلها إلى مجرد شأن تنظيمي داخلي أو افتعال حسابات حزبية لا توجد سوى في مخيلات وعقول من يروج لها، فهو أخطأ العنوان، ويمارس لعبة واستهدافا لن ينجحا مع حزب مثل التقدم والاشتراكية.
الحزب اليوم، ينشغل، كما كان دائما، بالمصلحة العليا لبلادنا وشعبنا، وبالمستقبل الديموقراطي للمغرب، ويحرص على السير في الاتجاه الذي يعبر عن هذا الاختيار المبدئي ويكفله، وذلك بكل رصانة ومسؤولية وغيرة على البلاد.
أما المهمات التنظيمية المتصلة بالحزب وحياته الداخلية، فهذا شأن آخر ولا يهم سوى المناضلات والمناضلين المرتبطين بحزبهم، والمنخرطين في مسارات تطويره وبنائه، وجميع الأعضاء والهياكل الحزبية منكبون منذ مدة على إعداد مؤتمرهم الوطني العاشر، كما دأبوا على ذلك دائما، بكل جدية وعمق، وبإصرار جماعي على وحدتهم الداخلية واستقلالية قراراتهم، وعلى صيانة حزبهم وحريتهم.
محتات الرقاص