أحداث وشخصيات -الحلقة 23

هؤلاء العباقرة الذين ننظر لهم من بعيد كأنهم كائنات خارقة، وهبت قوة غير عادية تجعلهم يشقون طريقهم للنجاح والإبداع بكل سلاسة، تحوطهم نظرات التقدير من الجميع ولا يعرفون الإحباط أو الفشل.
عندما تبحث في سير ذاتية للعظماء والمبدعين، ستجد أنها مليئة بالتحديات، لم يولد أحدهم وهو يحمل جينات في رأسه تختلف عن باقي البشر.. كانت ميزتهم فقط الفضول والمثابرة.. منهم ظل يبحث ويجرب، ومنهم من كانت إعاقة مثل العمى والصمم دافعًا له نحو تحقيق المستحيل… لكل منهم قصة وحكاية، تعالوا بنا نتعرف عليها ونستلهم منها.

هنريك إبسن Henrik Johan Ibsen

أبو المسرح الحديث، هو كاتبٌ نرويجي كبير كان من أهم العاملين على ظهور الدراما الواقعية المعاصرة.

نبذة عن هنريك إبسن

هنريك إبسن هو شاعرٌ وكاتبٌ ومخرجٌ مسرحي نرويجيّ مشهور، ويعُتبر عرّاب المسرح المعاصر وواحدًا من مؤسسي حركة التحديث المسرحي. صُنّف إبسن كواحدٍ من أعظم الكتّاب المسرحيين في الأدب الأوربّي، بل وربما أعظمهم بعد شكسبير.

بدايات هنريك إبسن

وُلد هنريك يوهان إبسن في 20 مارس عام 1828 في شين، بلدةٌ صغيرةٌ في مقاطعةِ تيليمارك Telemark في النرويج ومشهورةٍ في تجارة الخشب. ينحدر كلا والديه نود إبسن Knud Ibsen ووالدته ماريشين كورنيلا مارتين نيي التينبورغ Marichen Cornelia Martine nee Altenburg من عوائل مرموقةٍ في المنطقة.
كان هنريك الولد الثاني من بين ستّة أولاد، لكنّه عُومل كالإبن البِكر بعد موت أخيه المبكّر. كان له ثلاثة أُخوةٍ هم يوهان أندريس Johan Andreas ونيكولاي أليكساندر Nicolai Alexander وأولي بوز Ole Paus وأخت واحدةٌ اسمها هيدفيغ Hedvig.
كان والده نود إبسن تاجرًا ثريًّا يسكن في قصرٍ يدعى Stockmannsgarden في وسط البلدةِ، كان كريمًا يُحسن ضيافةِ الجميع ويعيش حياةً باذخةً. لكن كل شيء تغير بعد فقدانه ثروته عام 1835.
باعت العائلة قصرها عام 1836 وانتقلت للعيش في منزل مزرعةٍ مهدّمة في ضواحي البلدة. ثم انتقلوا لاحقًا للعيش في منزل أخيه غير الشقيق في Snipetorp.
أدمن نود الكحول بعد إفلاسه وانتقاله إلى حياة الفقر، وصبّ جامَ غضبه على عائلته، حيث تقبّلت زوجته انهياره بدون أي ملامةٍ. وقد أثّر الفقر عميقًا في هنريك الغلام الصغير ذو الثمانية أعوام، وخصوصًا بعد رؤيته تجاهل الأشخاص الذين كانوا يستمتعون بكرم عائلته وتمنّعهم عن مساعدتها، فبدأ في الانعزال تدريجيّا وأصبح عابسًا وغير اجتماعيّ.
كان إبسن الصغير يمضي أغلب وقته منعزلًا عن الناس في السقيفةِ أو في غرفةٍ صغيرةٍ مجاورةٍ لمدخل بيته الخلفي مُقفلًا على نفسه يقرأ الكتب القديمةَ أو يرسم.
ترك إبسن المدرسة في سنّ الخامسة عشر وبدأ بالعمل كتلميذٍ مبتدئ في صيدليّةٍ في غريمستاد Grimstad، واستمرّ في العمل لستّ سنواتٍ مكّرسًا وقت فراغه المحدود للرسم وكتابة القصائد.
كتب مسرحيته الشعرية الدراميّة الأولى عام 1849 بعنوان كاتيلينا Catilina، سائرًا على خطى ملهمه الأول ويليام شكسبير William Shakespeare.

إنجازات هنريك إبسن

انتقل إبسن إلى كرستينيا المعروفة بـ أوسلو حاليًا عام 1850 للتحضير للامتحانات الجامعيّة للدراسةِ في جامعة كرستينيا، وهناك تعرّف على كتّابٍ وفنانين آخرين، كان أولي سكوليرود Ole Scholerod من الأشخاص الذين تعرّف عليهم والذي موّل نشر مسرحيّة إبسن الأولى Catilina، لكنها لم تحظَ بشعبيّةٍ كبيرةٍ.

التقى إبسن في العام التالي عازف الكمان والمدير المسرحيّ أولي بولOle Bull، الذي عرض عليه أن يعمل ككاتبٍ ومديرٍ للمسرح النرويجيّ. كان المنصب الجديد بمثابة درسٍ مسرحيٍّ قاسٍ، تضمّن السفر خارج البلاد لاكتساب خبرةٍ ومعرفةٍ أكبر. عاد إبسن عام 1857 إلى كرستينيا ليدير مسرحًا آخر هناك. كان ذلك بمثابة مغامرةٍ مخيّبةٍ للآمال بالنسبة له، فقد زعم آخرون أنّه أساء إدارة المسرح وطالبوا بعزلة من منصبه. بالرغم من تلك الصعوبات التي قاساها إلّا أنّه تمكّن عام 1862 من كتابة مسرحيّة Love’s Comedy التي تتكلّم عن الزواج بصورةٍ هجائيّةٍ.

الكتابةُ في المنفى

غادر إبسن النرويج عام 1862واستقرَّ في إيطاليا لفترةٍ من الوقت، وهناك كتب Brand، وهي مسرحيّةٌ تراجيديّةٌ من خمسة فصولٍ تتحدّث عن قسيسٍ كلّفه تمسّكه بمعتقداته عائلته وفي نهاية المطاف دفع حياته ثمنًا لذلك. جعلته المسرحيّة مشهورًا في اسكندنافيا، وبعد عامين كتب إبسن واحدةً من تحفه الفنّيّةِ Peer Gynt، وهي مسرحيّة شعريّة معاصرةٌ تتناول الملاحم الإغريقيّة القديمة.
انتقل إبسن إلى ألمانيا عام 1868 حيث كتب مسرحية The Pillars of Society ، وعُرضت للمرّة الأولى في ميونيخ، ساعدت المسرحيّة في انطلاق مهنته هناك، وأتبعها لاحقًا بواحدةٍ من أشهر مسرحياته A Doll’s House حيث أثارت المسرحية التي أطلقت عام 1879 الرأي العام الأوروبي ، فقد تحدثت عن الفتاة نورا وسعيها لاكتشاف ذاتها، ومعاناتها مع العادات والتقاليد القديمة المتعلقة بالزوجة والأُمّ.
انتقل إبسن إلى روما وألّف مسرحيّة Ghosts مثيرًا المزيد من الجدل حيث تطرّق إلى جوانب جديدةٍ مثل المحرّمات والأمراض الجنسيّة. علت أصوات الاعتراضات والاحتجاجات على المسرحيّة، فلم تؤدّى على نطاقٍ واسع إلّا بعد عامين من إطلاقها. أما مسرحيته التالية An Enemy of the People فتحدثت عن رجلٍ على خلافٍ مع مجتمعه، قال بعض النقّاد أنّ هذه المسرحيّة كانت بمثابة ردٍّ على ردّة الفعل العنيفة التي تعرضت له مسرحيّته الأخيرة

العودة إلى النرويج

بالرغم من أنّه غادر موطنه محطّمًا، إلّا أنّ إبسن عاد إليه عام 1891 ككاتبٍ مسرحيٍّ عالميٍّ و بطلٍ أدبيٍّ بارزٍ. حيث أمضى أغلب حياته منعزلًا، إلا أنّه نجح في كسب شهرةٍ واسعةٍ في سنواته الأخيرة، كما أصبح مقصدًا للسياح القادمين إلى كريستينيا، واُقيم حفلٌ على شرفه عام 1898 للاحتفال بميلاده السبعين.
عكست أعماله التاليّة جزءًا أكبر من شخصيته، فتحدّثت عن شخصياتٍ تتذكّر الماضي وتعيش عواقب قراراتٍ اتخذتها سابقًا. كانت مسرحية The Master Builder هي العمل الأول الذي كتبه بعد عودته إلى النرويج، حيث يصادف البطل امرأةً من الماضي لتحثّه على الوفاء بوعده. أمّا مسرحيتّه الأخيرة When We Dead Awaken فكتبها عام 1899، وكانت تتحدّث عن نحّاتٍ يعمل على منحوتةٍ سابقةٍ لاسترجاع شرارة الإبداع التي فقدها.

حياة هنريك إبسن الشخصية

تمتّع إبسن بزواجٍ طويلٍ وسعيد على عكس باقي الشعراء والكتاب الآخرين. حيث تزوج سوزانا داي ثيروزين Suzannah Daae Thoresen عام 1858 وحظيا بطفلهما الأوّل والوحيد سيغارد Sigurd بعد عامٍ من زواجهما.كما كان لإبسن ولدٌ آخر من علاقةٍ سابقة عندما كان تلميذًا متدرّبًا عام 1846.

وفاة هنريك إبسن

تعرّض ابسن عام 1900 لسلسلةٍ من السكتات القلبيّة جعلته غير قادرٍ على الكتابةِ، حيث تمكّن من عيش عدّة سنوات أُخرى إلّا أنّه أمضى جُلّها غائبًا عن الوعي، وتوفّي في 23 ماي 1906، وكانت أخر جملةٍ نطق بها هي “من أجل الوطن” حيث قالها باللغة النرويجيّة.
صُنّف كواحدٍ من عمالقة الأدب في عصره، وأقامت له الحكومة النرويجيّة جنازةً مهيبةً.

> سعيد الحبشي

Related posts

Top