إيحاءات الفنانة السعدية هلوع

شاركت مؤخرا الفنانة التشكيلية السعدية هلوع (مواليد آسفي، ومقيمة بأكادير) ضمن فعاليات المعرض الدولي الكبير الذي أقامته جمعية ربيع الفن الدولي برواق باب مراكش، حيث قدمت جديد أعمالها الإبداعية المستوحاة من أجواء الأمكنة والأزمنة المغربية الحالمة، وفق أسلوب تعبيري يندرج في إطار “التشخيصية الجديدة”. فالألوان الموحية هي سيدة الموقف البصري، كما أن انطباعات الوجوه الطفولية والأنثوية بمثابة ميثاق تشكيلي يحتفي بقيم الألفة، والانسجام، والوئام. هكذا، تصبح اللغة التشكيلية في أبعادها الرمزية بيانا ضد السلطة الموحشة للحروب والصراعات الآدمية التي جردت الإنسانية من إنسانيتها، وعمقت جراحاتها الوجودية، وكرست، بالقوة وبالفعل، جحيمها الأرضي. تنطلق الفنانة السعدية هلوع في إعداد وإنجاز مشروعها التشكيلي من عدة رسومات تمهيدية طالقة العنان لسليقتها الإبداعية، ولمخيلتها البصرية لكي تنسج خطوط قصة تعبيرية في شكل لوحة تركيبية تنم عن مجازات اليومي وقد خضعت لعمليتي التشديد والأسلبة. أليست اللوحة، في آخر المطاف، رمزا للتقاسم والضيافة الرمزية ؟
ما تنجزه السعدية هلوع هو في الحقيقة متواليات من الوحدات السردية ذات الحمولات التعبيرية المتعددة. إنه نوع من الاستكشاف والاستبطان يعيد صياغة المرئيات الواقعية والمتخيلة بحس جمالي، وبلمسات دقيقة. كل العوالم الأليفة التي تؤثثها الفنانة عبارة عن سفر باطني زاده الخيال الذي يضفي على عالم اللوحة بعدا وجوديا، مظهرا وصورة. تنهض الهندسة الداخلية للوحة كتنويعات لونية ومشهدية على الفضاء التشكيلي، وكإيقاعات بصرية تشكل مقاربة جمالية حداثية. كل لوحة هي دعوة لامتلاء المعنى بكل أحواله ومقاماته، وذلك عبر ملكة الأخيولة (الفن أخيولة، والمحاكاة نسخة). في اللوحات نستشف هذا التشاكل الجمالي بين الزماني والمكاني والكياني. إن الفنانة تمسرح الكائنات الآدمية، ونقدمها في صورة مغايرة مفعمة بالإيحاءات المرئية واللامرئية. أليس الإبداع استبطانا لما يثوي وراء الواقعي بشذراته وهواجسه؟ هذا ما تمكنت الفنانة السعدية هلوع من تأويله، ومقاربته اعتمادا على مخزون ذاكرتها، وعينها الباطنية، ومتخيلها الفردي، متجاوزة الرهانات الشكلية، ومشتغلة على التجليات المتعددة والمتنوعة للمعاني التشكيلية. اللوحة تنزاح عن كل تقليد محاكاتي وتتعالى على القيمة الزخرفية، لكي تنخرط في التقاط الانطباعات الهاربة للحظة كامتلاك دلالي لا كفارقة فظيعة. يا له من ميثاق بصري يصالح بين الزمن والفضاء، عن طريق اللمسات اللونية، والبناءات الصباغية. على المتلقي الجمالي أن يصيخ السمع لهمسات اللوحة وهي تخوض مغامرتها التشكيلية في صمت وبدون ادعاء وتهافت. نحن إزاء دوامة الوجوه والملامح ذات الانطباعات الواقعية والتجريدية معا، إذ تتحول الإيحاءات الذاتية والموضوعية معا إلى شواطئ للمعنى بلا ضفاف. كل لوحة فنية جادت بها قريحة الفنانة السعدية هلوع تكتسي قوة تعبيرية متعددة، لأنها بكل بساطة ترجمات الوجدان عبر ومن خلال التدفقات اللونية الانسيابية.
تنبجس الحرية الإبداعية كفيض وجداني يتدفق من عالم الألوان والملامح الانطباعية، حيث يتوزع الفضاء التشكيلي كنص بصري، وكذريعة لإشباع روحي شبيه بلذة صوفية. يا لها من معمارية غارقة في جغرافيات الحداثة، عبر إيقاع اللمسات والحركات المكتملة. لا شيء منذور للمصادفة أو المجازفة، ذلك أن اللوحة من منظور الفنانة السعدية هلوع رسالة مفتوحة تستدعي إعادة النظر والسؤال والتأمل، لأنها تقوم على شعرية خفية تتراءى للناظرين كتأليف بصري، أي كنظم رصين، ونحت للحساسية الفنية. يحق لنا أن ننعت لوحات هذه الفنانة بالدهشة الصامتة التي تخترق الفضاء المساحي للوحة في شكل تنويعات لونية ومشهدية بليغة، وكأنها سفر عمودي وأفقي في آن، أقصد سفرا في السطح والعمق معا.    
 عبد الله الشيخ (ناقد فني)
    

Related posts

Top