همسات صدفة

جميلة هي كغصن من الياسمين في حارة دمشقية، جميلة كورد يفيض عبيره، سلاما للأرواح المتعبة، اندفاعية إلى حد التهور، وحكيمة إلى حد التصوف، ساحرة، عذبة، مرهفة، شفافة.. يسهل قراءة ملامحها، لكنها غامضةٌ كالمعاني في بطون الشعراء يصعب الحسم في فهمها، صعبةٌ مثل قصيدةٍ جاهلية، سهلة كأرض منبسطة وممتدة تخدشها أوتار الخيم وتبقى آثار الرحيل مرشومة.. بعبارة أدق هي تركيبة بين الذكاء والدهاء، بين الازدواجية والتباث…
لقد وقفت ونسمة البحر تداعب شعرها السائب.. كانت تنظر إلى البحر بعينين مليئتين بالدهشة والحزن، تدفن قدمها بالرمال، بدت وكأنها تربطها علاقة وطيدة بالبحر، رأيتها شاحبة.. كانت تغوص في التفكير.. ربما هناك شيء ما يحزنها.. حينها كان المساء، وكنت أنا عائداً من العمل متعباً ومنهكاً، أوقفت سيارتي لأسنشق الهواء قليلاً، فإذا بي أراها.. ثم بعدما رأيتها.. استوطنني شيء رهيب، حتى أنه دفعني إلى محاولة الحديث معها، وللمرة الأولى كنت أتحرر من نفسي ومن مبادئي لأتجه نحوها، بينما هي كانت شاردة وعالقة في التفكير، رميت حجارة نحو الماء في اتجاهها، فلم تحدث أي ردة فعل، فعلت حركات تجعلها تلتفت أو تحدث ردة فعل، لكن دون جدوى.. اقتربت نحوها أكثر وقلت لها مازحا: “الأسود يليق بك”.. نظرت إلي نظرة عقاب، بدت وكأنها تستعد للرحيل، ويا لها من خيبة أمل شعرت بها آنذاك، أحسست بالخجل من نفسي ولم أستطع بعد أن ألقي نظرة عليها.. كان علي أن أنقذ الموقف قبل رحيلها.
قلت لها وهي على وشك المغادرة :
“لا يزال المرء أميًا حتى يقرأ ذاته”جلال الدين الرومي. فهنيئاً لك بمجالسة ذاتك.. وَقَفَتْ بسرعة مندهشة، تم نظرت إلي بشراسة، وقالت لي بكل ما أوتيت من شجاعة وعفوية وكأنها تحاول التصريح بشيء ما في بالغ الأهمية لغريب لا تعرفه ولن تلتقي به مجدداً : أشعر بالخيبة من نفسي، هلا تركتني لوحدي؟
قلت لها: آسف لا أستطيع ذلك سيدتي، أتستحق منا هذه الحياة كل هذا العناء؟
قالت: فعلا، وكما قالت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي
انه ثمة شقاء مخيف، يكبر كلما ازداد وعينا بأن ما من أحد يستحق سخاءنا العاطفي، ولا أحد أهل أن نهدي له جنوننا.
أشعر بالعطب في نفسي أنا، لا من الآخر، نحن فعلا سريعو العطب، لأننا مخلصون بإفراط.
قلت لها: “كلّ موقف يعلمنا هندسة المسافة الآمنة بيننا وبين الآخرين، نتعلّم مع كلّ خيبة كيف نقيس أمتار الوفاء بنبض أحاسيسنا. وبمنطق تفكيرنا، نتعلم أن نضع في علاقاتنا مع البعض خطاً وهمياً، اسمه خط الرجوع بلا كدمات عاطفية.
مع الوقت لن نندفع إلى علو شاهق في الحب والثقة، لأنه حتماً سيفدي ذلك إلى أن نسقط على حطام مشاعرنا، في زمن بات فيه الإقتراب من الآخرين بقلب طيّب ثمناً تدفعه، موت قلبك الدافئ، تحت جليد أخلاقهم بدرجة تحت الصفر”.
مرت لحظات وهي تنظر إلي، نظرة تشبه نظرة الضحية، لطالما كنت أردد مع نفسي انه عندما يكون في بال المرأة الكثير من الكلام الذي تريد قوله من أعماقها فإنها غالباً تصمت.. بعد حين، قالت : “الإنتظار الممزوج بنكهة الحنين موت بطيء لا مناص منه و لا خلاص إلا بالنسيان أو بالأحرى التناسي”.. كانت حينها تخبرني بطريقتها أنها تتألم وكان علي أن أفهم ما تقصده دون أن أتجاوز ما لم تبح به، ملامحها صرخة تسقط بك حتماً. بعد استعانها بالكاتبة أحلام مستغانمي في حديثها فكرت أن أوجه لها الرد ذاته والذي كان من غير المتوقع مني أن استعين به. قلت :
“انتبه أيّها المسافر. قد يأتي الحبّ كرفيق مصادفة، تم تُفاجأ به يلازمك. اترك له مقعداً شاغراً جوارك، كي يستدلّ عليك وسط الزحام. ذلك أنّه يصل عندما تكون مزدحماً بكلّ شيء عداه”. أحلام مستغانمي/ شهيا كفراق.
إبتسمت إبتسامة ساحرة.. تذكرت حينها تساؤل لجبران خليل جبران: هل حقا الرجل أرجوحة بين ابتسامة المرأة ودمعتها؟.. تم تذكرت قول لفولتير بكون إبتسامة المرأة الجميلة شعاع من أشعة الشمس، أيقنت حينها بأن المرأة بتعبير كونفوشيوس هي أبهج شيء في الحياة.
لم أجد ما أقوله في هذه اللحظة سوى بيت شعري من أبيات جرير:
إذ ابتسمت أبدت غروباً كأَنَّها
عوارض مُزنٍ تَستَهِلُّ وتلمح
لقد هاج هذا الشوق عيناً مريضةً
أجالت قذاً ظلَّت به العين تمرحُ
شكرتني على الحديث دون أن تبدي اهتمام لما اهديته لها، كان يبدو عليها أنها فعلا منهكة، كأنها سئمت من الشعر ومن الأدب.. يبدو كما لو أنها كانت تسمعه على الأرجح دائما، يبدو أنها سئمته..
قالت بسخرية: أليس لك حبيبة تقضي معها هذا اليوم؟! هذا اليوم هو يوم للإحتفال بعيد الحب، يحاول فيه الشباب استغلال هذه القيمة النبيلة من أجل تحقيق رغباتهم ونزواتهم، إنه اليوم المشوه للحب في مجتمعنا، بئساً..
تجاهلت سؤالها.. وقلت لها
“الحبّ عابر سبيل، يمرّ بنا ويواصل طريقه من دوننا، مهما طال المشوار. بينما النسيان هو المقيم في أيّامنا وسريرنا ومفكّرتنا. إنّه رجل حياتنا.
يكفي أنّنا أوجدنا للحبّ عيدًا، ونسينا أن نحتفي بالنسيان، برغم كونه من يأتي كلّ مرّة لنَجدَتِنا من ظلم الحبّ. إن كان للحبّ يوم فالمنطق يقتضي أن يكون للنسيان موسم أو فصل هو سيّده ومولاه” أحلام مستغانمي.
ردت بسرعة وعفوية:
كنت قد قرأت بأن ميخائيل نعيمة أحبّ أثناء دراسته الجامعية في روسيا فتاة روسية ولم يتزوجها، وبعد ثمانين عامًا كتب في وصيته: “أتركوا باب الضريح مفتوحاً لعلها تصل”
هل حقًا يستحق من أحببناهم ولم يأتوا على مدى عمر من الانتظار، الانتظار.. إلى ما بعد الحياة؟ وهل النسيان هو في غنى عن الحب؟ يا سيدي إن الحب يستحق ألف عيد ولكن معظم الأشخاص يجهلون معنى الحب.
قلت لها: ما معنى الحب؟
ردت: ليس بوسعي أن أعرفه، فتحديده أمر صعب، لكن دعني أقول لك: حسب ما يرى ابن حزم الأندلسي في كتابه طوق الحمامة “إن الحب يبدأ بالهزل، وينتهي بالجدّ، وهو شيء لا تدرك معانيه، ولا يوصف إلا بالمعاناة، كما يقول إن جميع أنواع الحب قائمة على المنفعة الحسية تزول بسرعة، وتنتهي بانتهاء عللها باستثناء العشق المتأصل والمتوغل في النفس، فلا ينتهي إلا بالموت”.. لذلك أؤمن بالحب ولكن لا أصدق من يدعي المحبة. عمت مساءاً وإلى اللقاء… ألقت التحية وغادرت.. لكنها لم تغادرني.
أيعقل أن أكون قد أحببتها فعلا؟ أم انه كان مجرد إعجاب لحظي بها؟ حتى وإن كان مجرد إعجاب فبتعبير أحلام مستغانمي “الإعجاب هو التوأم الوسيم للحب”.
كان شعورا غريبا حقاً.
ووسط هاته الغرابة ما كان منها إلا أن ارتمت إلى أحضان الحياة مجددا، لتقاوم تخبطات النسيان، فغابت وراء عتمات الحب والانكسار، تاركة إياي أتعقب طيفها الذي سكن داخلي على غرة مني ودون سابق إنذار.

< بقلم: هند أبو القاسم

الوسوم ,

Related posts

Top