نعم.. توفي اليوم، قرأت للتو وصية منسوبة إليه… نفس العنوان يحضرني “نهاية رجل شجاع” الرواية والفيلم، و”الشراع والعاصفة”؛
خسارة أخرى (على بعد أيام من رحيل “سمير أمين”..)، تكاد منابع تشكيل الوعي أن تصاب بالجفاف لفائدة هذا التردي الذي يطفو مزهوا بالخواء.. !
كان هذا مضمون مكالمة تلقيتها هذا الصباح بعد انتشار نبأ وفاة حنا مينه، الذي قال في سياق آخر أن “هناك أشياء لا تسر (..) لكن هذا سيزول وستعود الأمور طيبة مثل الأول”.
***
توفي حنا مينه.. انتشر الخبر مثل النار في الهشيم، ضد إرادته و”وصيته” التي جاء فيها:
“عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أية وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، (..) لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، (..) لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها “..
لم تستطع وسائل الإعلام تجاهل موت حنا مينه، لأنه من واجبها تجاهه، لأن ذلك لايستقيم مع قوله: “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله (..) إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي،…”؛ وتجاه أجيال ساهم في تشكيل مزاجها، إثر ذلك.
***
حنا مينه الطفل والشاب اليافع المنتمي لعائلة بسيطة فقيرة، الذي اضطر للتوقف عن الدراسة والنزول للعمل لكسب لقمة العيش منذ كان صبيا كعامل ميناء، بحار، كاتب عرائض ورسائل، وكاتب على الأكياس، المراسل الصحفي .. الحلاق الذي يشتغل في دكان صغير، حتى استفزه زبون عاد للحلاقة عنده بعد مدة، حينما خاطبه بصيغة ما: ألازلت كما أنت.. ؟!
حنا مينه الذي صارع من أجل الخبز والحياة،.. كان جوابه الذي ربما لم يعلم به زبونه المفترض بتاتا، مواصلته النضال من أجل الحرية والتي سجن ونفي في سبيلها عدة مرات، وفي تكريس كتاباته لـ “نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض” كما يضيف ويتمم قوله (هنا) قائلا: “وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل”.
فأنتج إثر ذلك روايات ممتعة وعميقة، قد نكون قرأنا منها: الثلج يأتي من النافذة، حكاية بحار، المصابيح الزرق، الياطر، الأبنوسة البيضاء، المستنقع، الشمس في يوم غائم، بقايا صور، القطاف،… و”الشراع والعاصفة” الرواية التي اعتبرها حنا مينه قد كرسته روائيا، وأنه يعود للتعلم من بطلها الطروسي الذي خلقه بالكلمات؛..
و”نهاية رجل شجاع” ببطلها مفيد الوحش “بن القرية الريفي البسيط والقبضاي والذي شحذته الحياة البسيطة والقاسية وجعلت منه شخصاً قاسي الملامح حاد النظرة، تتطور شخصيته باتجاه تصاعدي ضمن المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي وفي سجون الاحتلال لتجعل منه وطنياً يحلم بالحرية والحياة فتتعاظم قوة الوحش بداخله ويتعاظم معها إيمانه بالمقاومة كسبيل وحيد للتحرر، عندها يتحول الفتى إلى أسطورة ليتغنى الجميع بقوته وشجاعته” (من الملخص التقديمي لفيلم “نهاية رجل شجاع”).. وعناوين أخرى.
***
عن سن 94 سنة، توفي حنا مينه الروائي المتيم بحياة “جاء إليها عن طريق الخطأ” صارعها وأحبها، بنفس حبه للموت الذي ظل يدعوه للقدوم إليه بعدما اعتبر نفسه قد عمر طويلا (حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا) !
تجاوزا سنقول أن “البحار” دخل البحر، رحل في عمقه.. إلى أن يعود مع مركب قادمة أو موجة صاخبة.. وفي أفضل الأحوال يلفظه البحر.. فالبحار لم يمت.. أبدا !
21 غشت 2018
> بقلم: رحال لحسيني*