شكل حضور جلالة الملك القمة الإفريقية الأوروبية التي احتضنتها العاصمة الإيفوارية أبيدجان قضية مركزية لفتت انتباه الكثيرين وتصدرت عناوين عدد من الصحف عبر العالم، وهي تعتبر بالفعل فاصلا بين مرحلتين في علاقة المملكة بالاتحاد الإفريقي.
إن عودة المغرب للاتحاد الإفريقي وسعيه لتمتين وجوده ضمن هياكل ومؤسسات المنظمة القارية يعنيان، بديهيا، الحرص، من جهته، على الحضور والمشاركة والفعل في مختلف محافلها، وبالتالي القطع مع الغياب وسياسة الكرسي الفارغ.
وإن العلاقات الاقتصادية والاستثمارية التي نجح المغرب في تقويتها مع أغلب بلدان القارة تفرض عليه، بدورها، ديبلوماسيا وسياسيا، الحضور القوي والإيجابي والفاعل داخل الاتحاد الإفريقي، والإسهام في صناعة قراراته وتوجهاته.
كل هذا يؤكد إذن أن مشاركة المغرب في قمة أبيدجان، والحضور الشخصي لجلالة الملك، كانا قرارا ذكيا وخطوة ديبلوماسية هجومية شجاعة.
وإذا تمعنا في الصور الصادرة عن أشغال القمة وإشاراتها الرمزية المختلفة يتأكد نجاح الحضور الملكي بشكل أوضح.
نستحضر هنا الجوانب الإجرائية والبروتوكولية ذات الصِّلة باستقبال جلالة الملك في الكوت ديفوار ، وحضوره داخل قمة أبيدجان، ثم جلوسه إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة في الجلسة، وأيضا توجه عدد من رؤساء الدول والوفود للسلام عليه، وتصريحات قادة البلدان الأوروبية والإفريقية ومسؤولي الاتحاد الأوروبي التي تشيد كلها بالمغرب وبجلالة الملك، ثم اللقاءات التي عقدها العاهل المغربي على هامش القمة، وخصوصا استقباله لرئيس جنوب إفريقيا، وهي الصورة التي تصدرت كل وسائل الإعلام الإفريقية والعالمية التي اهتمت بالقمة، كل هذه المؤشرات لم تكن مجرد صدفة أو بلا أي أهمية أو دلالة، وإنما هي نفسها بمثابة رسائل سياسية حقيقية.
وعلاوة على ما سبق، يمكننا أيضا قراءة أهمية هذه الرسائل المومأ إليها من خلال ردود فعل خصوم المغرب وتعليقاتهم أيضا.
نحيل هنا على قضية تقدم المسؤول الحكومي الجزائري للسلام على جلالة الملك، وما أثاره ذلك من جدل في صحف البلد الجار، ثم أيضا تبدل خطاب بعض المنابر الإعلامية الجزائرية تجاه المملكة، وأيضا حالة الارتباك التي كانت واضحة على وفد الجبهة الانفصالية وزعيمها أثناء القمة، ثم كذلك صورة اللقاء التاريخي بين جلالة الملك ورئيس جنوب إفريقيا زوما، وما أعقبها من تصريحات في جنوب إفريقيا، ومن الرئيس زوما نفسه، حول أهمية العلاقات مع الرباط وضرورة تطويرها.
الرسالة هنا أن المغرب لم يعد يشكل له التواجد في نفس المحافل التي يحضرها خصومه أي إحراج، وأنه لم يعد يمارس سياسة الكرسي الفارغ، وفِي نفس الوقت لن يغير مواقفه وشروطه بشأن ملف وحدته الترابية، وأنه ماض في تطوير علاقاته الثنائية مع كل الدول الإفريقية، ولن يستثني في ذلك بلدان الحلف المعادي له، وهذه المقاربة هي بالضبط التي أربكت الخصوم، وخلطت أوراقهم داخل القمة وبعدها.
هذه المنهجية التي تنسجم مع الديبلوماسية الهجومية التي اعتمدها المغرب في السنوات الأخيرة تمنع خصوم الوحدة الترابية لبلادنا من أي حرية تحرك أو مناورة في المنتظم الإفريقي بالخصوص، وبالتالي، وكما حدث في قمة أبيدجان، لا تترك لهم أي مجال للتحرك والبروز أو لاستصدار مواقف مؤيدة على حساب المغرب، كما أنها تتيح تطويق محور الخصوم الذي يتحرك ضمن فلك الديبلوماسية الجزائرية، وتضييق الخناق عليه.
الآن، وبعد قمة الكوت ديفوار، لا بد أن يتواصل العمل ضمن هذه المنهجية، وتمتين المبادرات الهجومية لديبلوماسيتنا، وتعزيز الحضور الإفريقي والأوروبي والعربي والعالمي، سياسيا وميدانيا وإعلاميا، وفِي المحافل الرسمية وغير الرسمية، وذلك بغاية الاستمرار في امتلاك المبادرة وتقوية وقائع الضغط على الخصوم ومسانديهم.
محتات الرقاص