(1)
■ لم يعد الأمر سراً..
وقبل أن يجف حبر المجلس المركزي في دعوته «الرئيس واللجنة التنفيذية» لتنفيذ قرارات الدورة الثلاثين(المكررة عن دورات ثلاث سابقة، وعن دورة للمجلس الوطني) كان «المطبخ السياسي»، ينهمك في إدارة مفاوضات تمهيدية مع حكومة بنيامين نتنياهو، قبل أشهر قليلة من إطلاق إدارة ترامب خطة «صفقة العصر»، التي تم تنفيذ 70% منها حتى الآن، باعتراف أمين سر اللجنة التنفيذية صائب عريقات. وبالتالي يصبح السؤال المطروح هو التالي: أية سياسة تعتمد القيادة الفلسطينية:
هل السياسة التي وردت في ثنايا قرارات المجالس المركزية التي أعلنت انتهاء العمل باتفاق أوسلو، بعد أن انتهكته حكومة إسرائيل، والتي دعت إلى «تعليق» الاعتراف بدولة إسرائيل إلى أن تعترف هي بالدولة الفلسطينية والتي دعت، فيما دعت إليه، بوقف التنسيق مع الاحتلال، وفك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي، والدعوة لمؤتمر دولي «متعدد الأطراف» بديلاً لمفاوضات أوسلو (وإن كان المجلس المركزي في دورته الـ29 والـ30 انقلب على هذه الصيغة المليئة بالثغرات، وعاد مرة أخرى إلى أوسلو عبر بوابة «رؤية الرئيس»)؟
• أم الذهاب إلى المفاوضات، أسريّة كانت أم علنية، فور أن يكون نتنياهو مستعداً لذلك، ودون شروط مسبقة، كما ورد في خطاب الرئيس عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 7/9/2018؟
• وبالتالي: ما هي السياسة الملزمة؟ هل هي السياسة التي تقررها الهيئات الرسمية (المجلسان الوطني والمركزي واللجنة التنفيذية) بالتوافق الوطني، أم السياسة التي يرسمها «المطبخ السياسي»، ويحول قرارات المؤسسة الوطنية الى مجرد أوراق مقايضة مع الجانبين الأميركي والإسرائيلي، كما رأى بعض المراقبين، عرباً وغربيين، وحتى الإسرائيليين؟
(2)
■ والرواية باتت معروفة ومكشوفة للقاصي والداني..
قبل انعقاد الدورة الثلاثين للمجلس المركزي، التي تم التحضير لها بحملة إعلامية جندت لها السلطة و«المطبخ السياسي» العدة المطلوبة، من صحافة مقروءة، وإعلام مرئي، ومسموع وتصريحات وغيرها، غادر الرئيس عباس، ووفد أمني رفيع إلى جانبه(ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات، وحسين الشيخ ضابط الارتباط مع سلطات الاحتلال، وجبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح والرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي في الضفة الفلسطينية) والتقى سلطان عمان قابوس. وادعى الطرفان أن محادثاتهما تمحورت حول العلاقات الثنائية وضرورات تطويرها.
بعد ذلك بيومين اثنين أعلن عن زيارة سرية قام بها نتنياهو إلى مسقط، أيضاً بدعوة من السلطان قابوس، رافقه فيها وفد أمني رفيع المستوى، وادعى الطرفان أنهما بحثاً العلاقات الثنائية والعناصر الضرورية لتوفير الاستقرار والأمن في المنطقة، علماً أن الطرفين لا يقيمان علاقات دبلوماسية بينهما(فكيف تتطور بينهما العلاقات الثنائية) وعلماً أن عُمان ليست دولة إقليمية ذات وزن عسكري يحسب له حساب في المعادلة السياسية والأمنية في المنطقة، فكيف إذن سيعملان على توفير العناصر الضرورية لتعزيز استقرار المنطقة وأمنها؟
بعض المراقبين توقع أن تكون زيارة نتنياهو على صلة بالملف الإيراني، وادعى أن مسقط تتوسط بين القدس المحتلة وطهران، للربط الثنائي في مفاوضات سرية تنزع فتيل التفجيرات بين الطرفين. وكان واضحاً أن هذه التوقعات، أطلقت من قبل تيار إعلامي معروف الاتجاهات، ولأسباب بدت أن لا علاقة لها لا من قريب أو بعيد بالزيارة، وأنها محاولة لفبركة أجواء في خدمة محور إقليمي معين في صراع مع طهران.
تأكد ذلك بعد أيام قليلة جداً، حين وصل إلى رام الله مبعوث خاص من السلطان قابوس إلى الرئيس عباس، هو بن الحبيب العميري، حمل إليه رسالة، قالت وسائل إعلام السلطة أنها حملت شكراً من قابوس إلى عباس لزيارته مسقط. هذا التوضيح من قبل «وفا» وباقي وسائل الإعلام، وبدلاً من أن «يوضح»، ألقى بظلال الشك حول معنى هذه الزيارة وتوقيتها وأغراضها. ولم يطل الوقت حتى حطّ في رام الله وزير خارجية مسقط بن علوي، وأجرى محادثات مع الرئيس عباس، حضرها إلى جانبه الوفد الذي كان قد رافقه إلى مسقط. بعدها انتقل بن علوي، وبعيداً عن الأضواء، وطار إلى تل أبيب، حيث التقى سراً بنيامين نتنياهو. وكعادتها، ألقت الصحافة الإسرائيلية الضوء على هذه الزيارة السرية، التي لم تنفها حكومة نتنياهو، ولم ينفها مكتب الوزير بن علوي. ثم انتقل بن علوي إلى العاصمة الأردنية عمان، حيث التقى الملك الأردني عبد الله الثاني، وأركان إدارته. وبالتالي، توقف الحديث عن وساطة مزعومة لمسقط بين القدس المحتلة وطهران. وبات الحديث يتركز حول العملية التفاوضية، ودور مكشوف لمسقط في «التقريب بين الجانبين» الإسرائيلي والفلسطيني.
(3)
كيف ولدت هذه «الوساطة» العمانية؟
من الطبيعي أن يكون قد استبق هذه «الوساطة»تحضيرات تقف وراءها إدارة ترامب مباشرة.ولولا الرعاية الأميركية وموافقة واشنطن، لما تجرأت مسقط على الانخراط في عملية شائكة ومعقدة للتوسط بين تل أبيب ورام الله. وقد أعطت واشنطن إشارتها الخضراء لإطلاق هذه الوساطة وربما وساطات موازية مرتين:
• الأولى حين أوفدت إلى عمّان (العاصمة الأردنية) رونالد لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، مبعوثاً خاصاً للرئيس ترامب، التقى فيها صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرر، رغم أن اللجنة التنفيذية كانت قد اتخذت قراراً بمقاطعة مبعوثي ترامب، وكل الدبلوماسيين الأميركيين الذين على صلة بالعملية التفاوضية و«صفقة العصر».
• الثانية إعلان ترامب قرب الكشف عن «صفقة العصر»(أو ما تبقى منها ولم ينفذ حتى الآن) ورَسَمَ ثلاثة أسس لاستئناف المفاوضات،مؤكداً أن في«الصفقة» مفاجأة سارة للجانب الفلسطيني،وأن من شروط الفوز بهذه «المفاجأة السارة» هوالانخراط في المفاوضات، وإلا، وفي حال رفض المشاركة، سوف يتم شطب الجانب الفلسطيني من المعادلة السياسية ولن تكون له أية حصة في الترتيبات اللاحقة. ما فهم أنها عملية ترغيب وترهيب للمطبخ السياسي الفلسطيني.
• ولا يستبعد المراقبون أن يكون الرئيس عباس قد نقل إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقائع كل هذه التطورات. كما لفت نظر المراقبين تعيين القاهرة سفيراً جديداً لها في تل أبيب، ما قاد إلى السؤال التالي: هل لتوقيت وإيفاد وتعيين السفير المصري الجديد في إسرائيل، علاقة بكل ما يجري على خط مسقط، تل أبيب، رام الله، تحت إشراف واشنطن؟ أم أن الأمر اقتصر، بين السيسي وعباس على بحث قضايا التهدئة وإنهاء الانقسام؟!
(4)
في السياق نفسه يلاحظ التالي:
• أن الرئيس محمود عباس في كلمة افتتاح أعمال الدورة الثلاثين للمجلس المركزي تجنب الإشارة، من قريب أو بعيد إلى زيارته إلى مسقط، رغم أنه تحدث عن جولات أخرى،خاصة الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة وما سبقها وما تلاها.
• أن أحداً من أعضاء المجلس المركزي الحاضرين لم يسأل عن الزيارة ومغزاها وما يدور خلفها، خاصة وأن زيارة عباس ونتنياهو إلى مسقط تمت قبل انعقاد المجلس المركزي،ولا بد أن تكون قد لفتت أنظار الجميع، خاصة من يتابع منهم الأحداث بالدقة المطلوبة. وهذه تسجل على العديد من أعضاء المجلس الذين تجاهلوا الزيارتين.
• أن وكالة «وفا»، ووسائل الإعلام الأخرى التابعة للسلطة، تجاهلت زيارة نتنياهو لمسقط ولم تعلق عليها. كما أن «وفا» هي الأخرى تجاهلت بياناً منسوباً لفتح انتقد استقبال دول خليجية لوفود إسرائيلية منها وزيرة الثقافة ميري ريغيف. كما أن ناطقين باسم فتح أدلوا بدلوهم في انتقاد هذا «الانفتاح» الخليجي على إسرائيل، ثم سرعان ما أنكروا تصريحاتهم، وتراجعوا عنها.
• وأخيراً، وليس آخراً، تجاهل البيان الختامي لدورة المجلس المركزي (الثلاثين) كل هذه التحركات واكتفى بالمطالبة (دون أي نقد) بالالتزام بعدم التطبيع مع إسرائيل. ما يؤكد، كخلاصة، أم ما يجري، ليس مجرد زيارات عادية، بل هي عملية يتم من خلالها التحضيرات لاستئناف المفاوضات.
(5)
أكثر من وسيلة إعلامية تناولت هذه التطورات. وأكدت ما يدور خلفها. حتى أن بعضها (الشرق الأوسط) أكدت أن مسقط طرحت على الرئيس عباس أسئلة محددة، وصلتها من واشنطن، طلبت من القيادة الرسمية الفلسطينية ردوداً عليها. وتقول بعض الدوائر إن زيارة بن علوي إلى رام الله كانت لبحث هذه الردود، وإن زيارته إلى تل أبيب، كانت للتشاور بشأن الردود الفلسطينية وإن زيارته إلى عمّان (الأردن) كانت لوضع العاصمة الأردنية في صورة التطورات، انطلاقاً من الدور الذي تلعبه القيادة الأردنية في ملف القدس، من موقع«الوصاية الهاشمية» على المقدسات في المدينة المحتلة.
وكان واضحاً أن القضية المفتاحية لتهيئة، الأجواء لاستئناف المفاوضات، كانت مدينة القدس، ومستقبلها في التسوية الدائمة.
ورغم أن بعض المصادر أشارت إلى أن ملف القدس سيكون شديد التعقيد، إلا أن إدارة ترامب تحاول أن تلتف على هذه القضية بالقول إن اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل لم يرسم للمدينة حدودها.أي أنه لم يعترف بـ «القدس الموحدة»، حسب التعريف الإسرائيلي، ولا بالغربية، أو بالشرقية، بل بالقدس بشكل عام. وأن تصريح ترامب بشأن القدس وعدم معارضته أن تكون عاصمة لدولتين، يمكن للفلسطينيين أن يعتبروه «تراجعاً» أميركياً، يوفر لهم الفرصة، أمام الرأي العام، للعودة إلى المفاوضات، على أن يكون مستقبل القدس مسألة تفاوضية.
يبقى السؤال التالي:
> هل يرضي هذا التفسير الجانب الفلسطيني، ويأخذ «بنصائح» عربية وغربية «بعدم وضع العراقيل» في طريق العملية التفاوضية وعدم الصدام الميداني مع الولايات المتحدة، حتى لا تخرج القيادة الرسمية الفلسطينية من المعادلة السياسية الإقليمية، كما أخرج منها الرئيس الراحل ياسر عرفات بعد اشتعال الانتفاضة الثانية وفصل مؤسسات الرئاسة عن مؤسسة الحكومة؟
> هل يرضى نتيناهو بهذا «التفسير» بشأن القدس، خاصة وأنه مقبل على مفاوضات مبكرة، قد يعرضه موقفه هذا إلى تكبد خسارة الأصوات اليمينية المتطرفة (آخر تصريحاته نفيه الذهاب إلى مفاوضات مبكرة)؟
> وبالتالي،هل نشهد في الأيام القادمة خطوات أكثر انكشافا نحو السير إلى الأمام على طريق استئناف المفاوضات الثنائية، سراً أو علانية..؟
بينما لجنة العشرين تستعيد ما قامت به لجان سابقة في رسم الخطط لتطبيق قرارات المجلسين المركزي والوطني، والمعلقة على جدار أوسلو وقيوده منذ 5/3/2015 وحتى الآن وحتى إشعار آخر، كما توقع الكثير من المحللين، فلسطينيين وعرباً.■
> معتصم حمادة