إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا
. بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس
. وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى
جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة
الشاعر قاسم جبارة
لماذا كان ينبغي أن أكون شاعراً، ألكي أموت بطريقة أخرى…؟
في سنة 1987، اختار الشاعر العراقي قاسم جبارة وضع حد لحياته، تاركا رسالة صغيرة ملغزة، على عادة الرسائل التي تكتب في مثل هذه الحالة المأساوية:
“لماذا كان ينبغي أن أكون شاعراً، ألكي أموت بطريقة أخرى…؟”
وعلى إثر رحيله كتب الناقد محمد مظلوم، شهادة عنه وعن تجربته الشعرية يقول فيها:
“قاسم جبارة ليس من أولئك الشعراء الذين يعولون على الشعر بوصفه خلاصاً وخياراً، فهو بالنسبة إليه نوع من تعلات عدَّة لمخاتلة المصير المأسوي إلى حين.
ليس المنفى المكاني في شعر جبارة، سوى صورة ظاهرية للمحنة الوجودية العميقة التي يعيشها وتتخفَّى في شعره، تخفياً جذَّاباً! في السيرة ظلام داخلي متمكن منه، فمنفاه ليس غربة مكانية، إنه اغتراب بالمعنى الفلسفي، مجسدا في تضاد الروح مع العالم الخارجي مما يولد «الوعي الشقي» وفق هيغل. إنه يعيش حصاراً داخليا أكثر قسوة من المنفى الجغرافي وكل النوافذ حوله مغلقة، إذ لا تنفتح نافذة حتى في كتاب أو لوحة! وكان يعاني أساسا من شعور النبذ المركب، وصولا إلى عقدة التمييز العنصري، مع شعور كياني بأنه مخلوع وطريد، شعور يقترب إلى حد بعيد من مكابدات أولئك الشعراء في التراث العربي المنبوذين من محيطهم والمعروفين بـ «أغربة العرب» وهم الشعراء السود الذين ورثوا السحنة السوداء من أمهاتهم، فأضحى هذا النسب منفى بدل أن يكون انتماء…
اللافت أنه يلتزم في قصائده الإيقاع الخليلي الصارم وهو يكتب في حقبة الثمانينات التي اتجه فيها مجايلوه بقوة نحو كتابة قصيدة النثر، هذا القالب الذي أراد فيه أن «يضبط» تمرده وانشقاقه وهامشيته، ربما احتجاجا ضمنيا موازيا لانفلات كل شيء حوله من أي ضابط!
كان قاسم جبارة يعاني قلقاً خطيراً في خياراته مصحوباً بسوء التدبير: هوية ثقافية بين الرسم والشعر والموسيقى والهندسة المعمارية والنحت، وزواج متعثر، ومكان ليس له، وانتماء مستحيل، وعودة غير متاحة للماضي. وأكد سوء تدبيره الأخير، حتى في طريقة انتحاره! فهو إذ اختار ما ظنه «رصاصة رحمة» في الصدغ، تنهي أوجاع الرأس والروح، إلا أن المسدس الذي اشتراه من بائع خردوات غجري مهاجر وهامشي مثله لتنفيذ مهمته الأخيرة، كان مسدسا توشك صلاحيته أن تنتهي ورصاصاته شبه فاسدة- كما نعرف من شهادة صديقه الفنان سعيد فرحان- فظل أياما في المستشفى مشلولا قبل أن يودع الحياة بعينين تضمران اعترافا أخيرا، قصيدةً لا يمكن لأحد تدوينها ونشرها نيابة عنه”.
****
من أشعاره
تخطيط بالألوان المائية لليلة الأولى من السنة
أجراس وحوانيت مغلقة
وأناس طول الليل يغنون
تأريخ يرحل في قارب
رداء يتأرجح دون مناسبة
ونبي يدخل في عصبة حشاشين
أجراس موحلة تقرع
وأناس يبكون بلا أحزان
على الشرفة ثمة كاميليا سكرة بالثلج
في الشارع ليس سوى النارنج
وحمار يعوي طول الليل ولا أحد يسمعه
وكما قلت لكم:
في تلك الشرفة كاميليا
وعلى هذي الشرفة
أتفتح كالآس.
***
سياحة بحرية
التوهج يحمل زرقته
ويواصل تجميعها في الضفاف
ثم يطفئها في الخواتم
في صمت بوصلة
في حكاية أبكم،
المراكب عائدة دون أشرعة
والمظلات مغمورة بالمياه
في الحديقة يوقفني فجأة
مشهد جاموسة
تمخر البحر نحو الضفاف.
***
أغنية الطفل الأصم
لا أريد الفراشة، عندي على المنضدة
قارب وشموع
لا أريد الفراشة، عندي هلال حديد
وعندي صوتي الذي ابتلعته النجوم
لا أريد الفراشة، عندي نافذة
وأغان على بركة في الجدار
كلما سقطت نجمة وسطها
تحركت نحوي دوائرها
دائرة دائرة دائرة
لا أريد الفراشة
لا أريد الفراشة
لا أريد سوى نجمة واحدة
لتحوّل الفضاء فضة
والشموع غيمة
ومنضدتي بركة ثانية.
> إعداد: عبد العالي بركات