إن المتتبع للشأن التعليمي الوطني، في ظل ما يعرفه العالم من جراء تداعيات انتشار فيروس كوفيد 19، ليتساءل حول جدوى الإجراءات المتخذة من طرف وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي. فما يتداول في الساحة التعليمية، سواء من طرف فاعلين تربويين أو أولياء الأمور وكذا المتعلمين أنفسهم، يطالبنا جميعا بأن نوضح طبيعة المشهد الحقيقي وطبيعة الرهانات المؤدية لتبني حل التعليم عن بعد.
إن أي نقاش تقييمي، في هذه اللحظة، لا يعدو أن يكون مجرد رأي ينحاز لذاتية صاحبه، فطبيعة الأزمة وما خلفته من تأثير على الحياة العامة يستدعي العمل بسرعة قصوى لتفادي السقوط في السكتة، وفي هذا الصدد وجب التنويه بسرعة تجاوب الوزارة الوصية وتعاملها مع هذه المستجدات ضمانا للاستمرارية البيداغوجية.
إن العمل والتفكير التراكمي بدأ منذ زمن، وتطور بفعل انخراط مجموعة من الكفاءات، سواء بشكل فردي أو عبر جمعيات ومراكز بحوث، حاولت، بشكل جاد ولمدة طويلة، تحسيس المنظومة التربوية بأهمية استغلال وإدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المجال التربوي عبر خلق مجموعة من التظاهرات العلمية والمسابقات الوطنية في مجال إنتاج الموارد الرقمية، هذا بالإضافة إلى مجموعة من البحوث العلمية التي تمت في إطار مؤسسات جامعية، وخاصة تلك التي تم العمل عليها بمركز تكوين مفتشي التعليم، والتي ساهمت في تيسير وضع خطة بديلة نابعة من دراية نظرية وتطبيقية موثقة. ولهذا، فالزعم أن إدراج التكنولوجيا في العملية التعليمية هو نتاج قرار سياسي لحظي لا يعبر عن المشهد الحقيقي وعن الجهود الحثيثة التي قام بها متخصصون ومصممو الموارد الرقمية طيلة العشر سنوات الفارطة.
لكن هذا لا ينفي إمكانية اعتبار أن الظرفية التي نعيشها قد تساهم في إحداث طفرة حقيقية يمكن استغلالها في إطار تصحيح تمثلات الكثير من الفاعلين وذوي القرار، فيما يخص إمكانيات المغرب وقدرته على إنتاج واستثمار التكنولوجيا، وتغيير بعض مسارات تفعيل العديد من البرامج، بما فيها برنامج جيني، لتوافق التعريف الحقيقي لمفهوم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قصد إخراجه من الحيز الضيق للبعد اللوجستيكي إلى أبعاد أخرى تتناول تنمية كفايات القرن 21.
وهذا يستدعي العمل على احتضان مختلف المبادرات والإنتاجات التي يقوم بها مجموعة من الفاعلين على المستوى الوطني، وكذا مواكبة التظاهرات التي تقوم بها مجموعة من الجمعيات التي اختارت لنفسها تبني مشروع ادماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الميدان.
إن الحديث الذي ينساق إلى جعل التكنولوجيا مدخلا لتنمية الكفايات وتمرير التعلمات، كثيرا ما يستفز مجموعة من المتخصصين في مجال التربية والتعليم، ويغرق النقاش العمومي في أطروحات وأطروحات مضادة تناقش معايير تكافؤ الفرص ونسب الولوجية وغيرها من الصعوبات التي تكتنف التعامل والتواصل عبر القنوات الافتراضية.
والمتتبع حين يقرأ مجموعة من التعليقات عبر المدونات والجرائد، وكذا تلك التي تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، يجد نفسه أمام سيل من الحجج الدامغة التي تتفق في مضمونها على أن أي الحديث عن الموارد الرقمية أو المنصات الإلكترونية هو في حقيقة الأمر تعزيز للتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية.
ولكن المشهد الحقيقي بعيدا كل البعد عن الواقع الظاهري، فاكتساب الكفاية التكنولوجية والرفع من مستوى استعمالها عبر انغماسها في تمرير المعارف الأخرى، يعد عاملا معززا لتكافؤ الفرص بين جميع المتعلمين في ولوج سوق الشغل.
ولذلك يجب أن نستقرئ تمثلات الفاعلين عبر آلية منهجية تعتمد على مقارنة آرائهم واتجاهاتهم والفرق الواضح الذي يظهر على مواقفهم تجاه متغيرات لها نفس السمات ونفس الأثر، وهذا ما يمكن تسجيله بمقارنة مواقف المتتبعين للشأن التربوي تجاه أهمية تدريس اللغات بالمقارنة مع ادماج التكنولوجيا.
والغريب في الأمر هو ما يخلفه النقاش حول أي تغيير يهم التقليص من محتويات مواد اللغات باعتبارها أدوات مهمة لكل متعلم لكي يستطيع أن يلج سوق الشغل، وما يصدر من آراء حول مسألة اكساب المتعلمين كفايات تكنولوجية كأساس لإعادة بناء شخصيتهم المهنية المستقبلية، وكبوابة لتطوير إمكاناتهم وما يعبرون عنه من ممانعة شديدة، تذهب إلى حد التشكيك في مدى دور الوسائل التقنية التواصلية في خلق قيم إيجابية لدى الطفل والتشكيك في مدى ملاءمتها لبعض الفئات العمرية، رغم ما توفره من إمكانات هائلة كفيلة بأن ترفع من المستوى المهاري لمستعمليها.
هذه المفارقات وغيرها كفيلة بأن توجهنا نحو طبيعة النقاش الحقيقي الذي يجب أن نتطرق إليه وتوجهنا لتناول الموضوع بكليته دون تجزيء لملامح الظاهرة وتفتيت لها ودون المغالات في تعميم نتائج لا تتوفر على الشروط الكافية لتعميمها.
إن المتحدث في مثل هذه المواضيع لا بد له أن ينطلق مما توصلت إليه الأبحاث العلمية في دول أخرى؛ فالمدرسة الألمانية كمثال، والتي ساهمت في تغيير طبيعة تصور العالم لإمكانات المجال الافتراضي، قد اعتبرت أن الحديث عن التكنولوجيا كوسيلة محايدة ومساهمة فقط في تمرير الخطاب، أنه تصور يشوبه الكثير من القصور، وأن الوسيلة المستعملة بشتى تصنيفاتها جديرة بأن تخضع هي الأخرى للدراسة، باعتبارها متغيرا متحكما في ارتقاء وتطور الخطاب عبر ما تتيحه من إمكانيات لمعالجة وحركية المعلومة، لذا فالتخلف عن ركب التجربة الإنسانية لا يعدوا مجرد ممانعة لاواقعية قد تعصف بآمال التنمية والتقدم.
وبالعودة إلى التجربة المغربية، فلا يجب بأي حال من الأحوال أن نعتبر أننا في مستوى الحديث عن ادماج للتكنولوجيا في الحقل التعليمي، بل يجب أن نموقع أنفسنا بشكل واقعي، فنحن لا زلنا في مرحلة تحسيس الفاعلين بضرورة استثمار إمكانات مختلف الأدوات الرقمية “تطبيقات ومنصات رقمية”، وهذا راجع لعدة أسباب جاء الحديث على ذكر بعضها في الأسطر السابقة.
ولكن، لا يجب أن نبخس من التجربة التي اكتسبها العديد من الفاعلين التربويين في هذا المجال، ولا بد من التفكير الحقيقي في تجميع هذه الكفاءات لإنتاج خطط عمل دقيقة نتجاوز من خلالها الهفوات التي صاحبت هذه المرحلة والتأسيس لمنهج فكري موحد يضم مختلف الفاعلين بشتى مواقعهم ومواقفهم، كي نصل لوضع أطر مرجعية قائمة على نظرة علمية بعيدة عن التقديرات التجزيئية الخاضعة للتوجهات الذاتية.
* عضو فريق التجديد التربوي
خالد شطاحي