شفشاون: الجوهرة الزرقاء

في وصف شِفْشاون،

الجوهرة الزقاء،

يعجز القلم واللسان،

وتحرُن الحُروف والألوان،

أمام جمال حورية رأس الماء،

النابعِ من عيون الجبال،

المُطلةِ عليها،

والمُكلِّلةِ رأسَها العالي:

بوحاجة، ماكو، وتيسملال.

من أي أبواب المدينةِ الفاتنةِ الدخولُ إليها،

من باب العين،

ودهشتِها الأليفةِ،

أم من عين اللونِ،

المدهشِ الهدأةِ والألفةِ،

الطفوليةِ المزدانةِ،

بالأبيضِ الثلجي،

والأزرقِ البحري،

والأحمرِ الترابي،

المطوقِ خصرها،

والاخضرِ العشبي،

المتلألئِ عند موطئِ قدميها.

ولا يملك العاشق بالتالي غيرَ حبِّه لها والدخول من بابِه وقلبه إليها، والانحناءِ، صُعُداً ونزولا، والتمَلّي والتّأمُّلِ فيها، لوحة وقصيدة ونغمة وكلمة وحكمة خفيةَ التجلّي وجليةَ الخفاء. ولا يملك العاشق سوى الهوى والجوى والصمتِ في حضرتها و”التحملق في وجهها الأزرق الذي لا شبيه له” على حد بوح عاشقها وترجمان أشواقها أخي الشاعر الأعزّ الأغرّ الأبرّ الأستاذِ عبدِ الكريمِ الطبّالِ. ولا يملك  العاشق الخجول – إلا في القصيدة – كما قال عنه الأديب أحمد زيادي ذات مهرجان، غيرَ الانحناء للعشبِ عند موطئ قدميها، قائلا بلسان ديوان “زهرة الثلج”:

لك أنحني يا عشبُ… يا شعبَ الطفولةِ والبطولةِ والجمالْ.

لك أنحني، يا زهرةَ الثلج الذي ينمو ويعلو لا تُطاوله سماءٌ أو جبالْ”!

كيف السبيلُ إلى الامتنانِ والعرفانِ بالفضلِ والجميلِ لأياديها السابغةِ البيضاء، التي لا تتعدّدُ لكنْ يمكن العَدُّ منها على حدِّ تعبير المعلم العظيم الرفيقِ أبي الطيب المتنبي، مع الاعتذار الحارّ له على تغيير ضمير الغياب الذكوري إلى الخطاب المؤنث المعولِ عليه:

لها أيادٍ عليّ سابغةٌ،

أعُدّ منها ولا أعَدّدُها!

ويمكنُ أن نُعَدَّ نحنُ أيضاً من جمال أياديها السابغة البيضاء.

ومن حسن حظي أن أُعَدّ من بعضِ محاسنِ أياديها البيضاء،

 عبر كتاب “دوحة الناشر لمَحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر” للشيخ الجليل محمد بن عسكر الحسني الشفشاوني، المُترجِم فيه لثلاثةِ أسماء من أكابرِ أعلامِ تازةَ المشاهيرِ بالعلم والتصوف والشعر:

 “الشيخِ المتفنن الأديبِ البارعِ اللوذعي النّحريرِ المتبحرِ الصوفي المتوغلِ في مشاهدةِ الجمال” الشاعرِ ابنِ يجّبشَ التازي، إلى جانب العالمِ المتصوفِ الوليّ العارفِ “صاحب المواهب والعلوم والتصانيف الكثيرة والرسائل المنيرة” الشيخِ أحمد زَرّوق البَرنُسي الفاسي البَرنُوصي، والتازي بالتالي، تماماً كأخيهما العالمِ الوليّ، “من أصحاب الشيخ أحمد زروق” القطبِ “الجليلِ القدرِ الكبيرِ الشأنِ” و”نزيلِ مليانةَ بين الجزائر وتلمسان” و”من أكابر الصوفية” سيدي أحمد بن يوسف الملياني!  و”قبرُه مزارة عظيمةٌ بمليانة” وهي مدينة قديمةٌ، مؤسَّسة في القرن السابع قبل الميلاد خلال العهد الروماني على يد الإمبراطور أوكتافيوس. وكما  كانت مصراتة الليبيةُ زاويةَ الشيخ زرّوق ومدفَنَه، كذلك لا يزال في خميسِ مليانة أو مدينةِ حَبِّ الملوك، ضريحُ ومزارُ الشيخ أبي العباسِ سيدي أحمدَ بنِ يوسفَ الراشدي الملياني. وهو الذي قال عنه اليوسي في كتابه “المحاضرات” إنه “شيخ المشايخ والطوائف المغربية” هذه التي قال عنها كاتب “دوحة الناشر” الشفشاوني إنها “طائفة يوسفية مبتدعة” وممن “توغلوا في محبته وأفرطوا فيها حتى ربما نسبه بعضهم إلى النبوة”!  و”لما بلغه ذلك قال: “من قال عنّا ما لم نقل يبتليه الله بالعِلّة والقِلّة والموتِ على غير مِلّة”!

ساحة وطا الحمام بشفشاون

وإلى هذا الشيخ الإمام والجدِّ الأكبرِ إهداءُ آخر ديوانٍ لي صادر في هذا العام   بعنوان: “غُمّة الكِمامة” فضلاً عنِ الوفاءِ لذكره الحسنِ في أكثرَ من مقالٍ ومَقام.

 وعلى سبيل الذكر الحسن في “دوحة الناشر” ترجماتٌ أخرى كثيرةٌ لأعلامٍ مشاهيرَ أجلّاء، من أمثالِ “بنْ ميمون” و”الهبطي” و”الشاوي” لعلهم من شجرة أنساب أصدقائنا الكتاب والشعراء ومن أعزاء “جمعية أصدقاء المعتمد” المتعددةِ الأيادي السابغةِ البيضاء، على مُنتهى الجموعِ والنُّهى الغفيرة، من كتّاب وكاتبات التّحابّ المغربي، والجمالِ المؤمَّل والمرتجى والمعوَّل عليه، لإنقاذ العالمِ كلِّه من ضلالِهِ المُبين لو استجابَ العالمُ كلُّه لنضال جميعِ أنواعِ الإبداعِ والديوانِ الإنساني الجميل.

وعلى سبيل الذكر الحسن أيضاً و”ذكرُ الصالحين كفّارة للذنوب” و”تَنزِلُ الرحمةُ عند ذكرِ الصالحين” تماماً كما يقولَ هذا الحديثُ الرسوليّ الجميلُ، لابدّ من الإشادةِ بريادةِ “أصدقاء المعتمد” الجديرةِ باحتلال المقام الأرفعِ، عند استعادةِ ذاكرةِ الثقافةِ والعملِ الجمعويّ المبدعِ، المؤسِّسِ والمُكرِّس للبِدْعةِ المُمتعةِ الحداثةِ والجمالِ والنضالِ، الثقافي والسياسي، لجميع “روّاد القلم” والألم والحلم والقضايا الكبرى والرزايا العظمى، خلال تلك الحقبةِ السِّتينية الخِصبةِ العطاءِ والعناءِ والغناءِ، والتي يحلُو لي القولُ دوماً إنها مرحلةٌ ملحميةٌ دراميةٌ وزَيزفونيةٌ،  لم تُزهر ولم تُثمر إلا بجمالِ النضالِ ونضالِ الجمالِ الإبداعي والاجتماعي.

 وشكرا بكل اللغات لإيقونة الجمال، حوريةِ الماء والجبال، الجوهرةِ الزرقاءِ، القلعةِ الجماليةِ والنضاليةِ المنيعةِ، المُنتصبةِ القَصبةِ، مُتحفاً أثرياً ومعرضاً فنياً ونافورةَ ماءٍ وأزهارٍ وأنوارٍ ومُوسيقى، وحَلْبَةَ رقصٍ جماعي على إيقاعِ القصيدةِ والغناءِ.

 شكراً وعذراً لها ولحمام ساحتها الأليف، وللقلاقِها الشريفِ وعاشقها المهاجر، على الغيابِ الطويلِ الوَبيلِ الحنينِ، المشحونِ بالحزنِ الفرِحِ والمسكونِ بالفرَحِ الحزينِ، والوفاءِ لذكرى جميعِ شعراءِ وشاعراتِ ونقادِ وجمهورِ ومهرجاناتِ “أصدقاءِ المعتمد” الغائبينَ والحاضرينَ، الراحلين والمقيمين،

 ملءَ القلبِ على حَظٍّ من الحبِّ سواء.

ماي 2023

مهرجان شفشاون الشعري

مهرجان الشعر المغربي الحديث موعد وطنيّ سنويّ ظل يتجدد منذ منتصف الستينيات. ولم يعرف سوى فترات بياض قليلة. وهو عنوان جمعية أصدقاء المعتمد ابن عبّاد ومدينة شفشاون على حظ من الحبّ سواء. وهو أيضاً ديوان حبّ مشترك بين أجيال من الشعراء والشاعرات متصالحة الآمال ومتلاقحة التجارب والأشكال واللغات.

لم أحضر إلا دورات قليلة، من المهرجانات الأولى، التي كانت ربيعية، ولم أغب إلا عن بعض المهرجانات الأخيرة، والقليلة جدا، بعد أن أصبحت صيفية. لكن مساهماتي في الدورات البينية الكثيرة، كانت كلها حافلة بجمال الذكريات وتبادل الآراء والإصغاء وطيبة الأصداء وحفية الجمهور العاشق دائماً (وبالنسبة لي) خلال تلقي كل القراءات وتنسيق إحدى الأمسيات ولقاء مفتوح لتقديم وتوقيع آخر الإصدارات.

هو إذن مهرجان أصدقاء المعتمد ابن عبّاد والشعراء والنقاد واتحاد الكتاب وجهات أخرى. غير أنه في المقام الأول مهرجان الشاعرة الأمازيغية الاسم: “شوف/ شاون = انظر/القمم” والحاضرة الأندلسية العائلات المغربية الكريمة التي فتحت قلوبها وأبوابها لضيوف المهرجان دورات عديدة قبل أن تستقبلهم غرف الفندقين أسفل أو أعلى الجبل المطل على المدينة الفاتنة الآمنة والوديعة السريعة الألفة والمنيعة المحاطة بالجبال الشامخة والباذخة الجمال.

إلا أن أجمل اللحظات على الإطلاق كانت قبل كل شعر وبعد أي نقد، حين تجتمع الوجوه التي تبدع وتمتع وتستمتع بجمال كل أنواع الإبداع المغربي حول أشهى طعام وأبهى كلام وألذ شراب وأحلى كتاب، آناء الليل وأطراف النهار، وإذ تتجول في منبع رأس الماء، وحديقة القصبة الأثرية، والسويقة الثرية، وعلى إيقاع الطقطوقة الجبلية، وبين ألوان الأزقة والأحياء العتيقة والأزياء المؤتلقة البياض والخضرة والزرقة الأسرة العيون والساحرة القلوب.

وكم كانت تحلو المجالسة والمؤانسة وكؤوس شاي المساء الساخنة في ساحة “وطا لحمام”. وما ألذ طعم “بيصارة” الصباح التي كنا نصحو لها باكراً مع الذاهبين إليها وإلى صلاة الفجر..

وكم كان يحلو اللقاء مع أصدقاء المعتمد في مهرجان شفشاون الشعري ولكن ما أشق فراق شاعرة المهرجان شفشاون الفاتنة الجمال!..

_________

* في حفل تكريم بمهرجان أصدقاء المعتمد الأخير ماي 2023

بقلم: إدريس الملياني

Top