التفاعل الجديد مع القضية الفلسطينية .. هروب من المشكلات

تأثرت مكانة القضية الفلسطينية سلبا مع توالي الصراعات في المنطقة، ولم تعد تحتل مركزا محوريا في وجدان وعقل العديد من الشعوب والحكومات العربية عقب انفجار طوفان من الأزمات، في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، وتعاظم مشكلات مصر وتونس والجزائر والسودان، وتقدم المواجهة مع إيران مع العالم في منطقة الخليج. وقيل إن قضية فلسطين طواها النسيان مع اشتداد الخلافات والانقسامات على ساحتها الداخلية، وهبوط سقف الطموحات بشأن التوصل إلى تسوية سياسية منطقية.
عادت القضية الفلسطينية أم الأزمات في الشرق الأوسط لتطل برأسها فجأة خلال الأيام الماضية، ويتفاعل مع بعض تفاصيلها الإنسانية والسياسية خطاب شعبوي في المشرق والمغرب العربي، لا يتناسب مع خفوت خطاب الكثير من الحكومات في مواجهة التغول الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. وظهرت معالم الأول في منتديات ولقاءات عربية مختلفة.
كان لافتا أن تتقدم هذه القضية في خطاب رئيس الجمهورية التونسية الجديد، قيس سعيد، في كلماته الأولى بعد نجاحه في الانتخابات ثم تسلمه السلطة، بل وتتردد عبارات وأشكال التعاطف معها في بعض التظاهرات. وتصدح حناجر الشباب بدعمها في بعض الملاعب العربية، وكأن هناك مايسترو يقوم بالتخطيط لانتقال العدوى من فناء إلى آخر، ما يبعدها عن العفوية المعتادة التي تجذب الناس عندما يرون تصاعدا في حدة الهجمات الإسرائيلية.
جاءت قضية الاعتداء مؤخرا على المصور الصحافي الفلسطيني، معاذ عمارنة، لتزيد الزخم، حيث نددت الكثير من النقابات المهنية بقيام قوات الاحتلال بإصابته في إحدى عينيه. وبدا كأن خطابا عربيا يولد من جديد يتعاطف مع القضية برمتها، مع أن الكثير من الفلسطينيين نسوا عدوهم الأصلي، وهو إسرائيل، وتفرغوا لعملية مضنية لتصفية الحسابات البينية، والقفز لتوطيد العلاقة مع بعض القوى الإقليمية التي لها مآرب ليس في مقدمتها استعادة الحقوق الفلسطينية كاملة.
لم تحرك انتهاكات إسرائيل من قتل وتدمير وتهجير وتغول في المستوطنات ومحو للذاكرة الفلسطينية وصفقات مشبوهة، ساكنا، أو تدفع نحو الالتفاف حول موقف عربي لردعها، والذي اقتصر على شجب وتنديد لفظي من حين لآخر، بما أراحها وشجعها على التمادي في تجاوزاتها داخل الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية، وحتى العراقية، ولم تطمئن للتطورات الحاصلة في علاقاتها مع بعض الدول العربية، وبقي معظمها يدور في الخفاء ورهينة لنبض شعوب لا تأمن لها تماما.
تصرفت حكومة إسرائيل وفقا لسياسة العصا والجزرة في علاقتها مع الفصائل الفلسطينية، لأنها تعلم أن المبالغة في الأولى يمكن أن توقظ حسا شعبيا عربيا نائما، ولذلك لم تبخل من وقت لآخر بالتلويح بالثانية، مع أنها كانت تستطيع إنهاء ما تبقى من القضية دفعة واحدة.
تمكنت إسرائيل من الحصول على دعم ووعود أميركية سخية، وخشيت أن تؤدي التصفية الخشنة إلى إيقاظ شارع عربي هادئ قد يتحول إلى هادر يبحث عن التعلق بأهداب قضية قومية، بعد أن عجز عن تحقيق أحلامه في إصلاحات وطنية وضبط لميزان الحريات وحقوق الإنسان، ولم تتمكن حكوماته من الاستجابة لتطلعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
من المفارقات المدهشة أن التفاعل العربي مع القضية الفلسطينية وجد أصداء رسمية وشعبية واسعة، ليس لأنه يوقظ الحس القومي ويبعثه من جديد، أو يعني أن هناك استعدادا للتجاوب معه، بل لأنه يحمل جملة من الرسائل السياسية التي يضعها كل طرف في جعبته، حتمت التفاهم بصورة غير مباشرة، وسهلت الطريق أمام استهداف إسرائيل دون دفع تكلفة مادية باهظة، وربما الحصول على فوائد معنوية.
على المستوى الرسمي، ثمة ركود في كثير من الدول العربية يتعلق بالإخفاق الكبير في التصدي لإسرائيل وعدم العثور على طريقة ناجعة تخفف قبضتها، وغاية ما يتم البحث عنه من قبل بعض الحكومات ضمان استمرار حالة اللاسلم واللاحرب، ومنع نشوب معارك مدمرة، حتى لو كانت هذه الصيغة تقود إلى المزيد من التآكل في عظام القضية الفلسطينية، ويمثل الانخراط الشعبي دون تحريض رسمي معلن بابا خلفيا للضغط على إسرائيل، ويقلل من التحركات الأميركية الرامية إلى تسريع تطبيق صفقة القرن، وتحمّل تبعاتها عربيا.
إذا كانت هناك عوامل نحّت هذه الصفقة جانبا حاليا، فلا تعود إلى عبقرية واختراعات ومناورات صانع القرار العربي، لكن إلى طبيعة التحديات التي تواجهها، ومن بينها احتمال غليان وانفجار الشارع العربي، لأنها تقضي على كل أمل في وجود كيان فلسطيني مستقبلا، ما يفسر عدم انزعاج بعض الدوائر من التعاطف الشعبي مع القضية الأم، لأنه يعوض ما يمكن وصفه بـ”الصمت الرسمي” والعجز عن القيام بجهود تلغي الصفقة أو تساهم في تعديلها بصورة جوهرية وتحفظ الحقوق الفلسطينية.
ينطوي التفاعل أيضا على إشارة ردع تحمل عنوانا ضمنيا لإسرائيل، مفاده أن تصرفاتها العدوانية في فلسطين غير مأمونة العواقب، وعليها أن تضبط إيقاع توجهاتها كي لا تنفلت الأمور، لأن زعامات عربية قد تصبح مضطرة إلى الانصياع لصوت الجماهير الرافضة للمزيد من الانخراط معها في علاقات ودية علنية.
تعتقد بعض الحكومات العربية أن الانشغال بالقضية الفلسطينية، وحتى خروج تظاهرات تتعاطف معها، يريحها في مسألة توجيه الاحتقان ضد أنظمة فشلت في تحقيق أهداف شعوبها، لكن الخوف أن يقود الانفعال بها إلى نجاح الجماهير في أن تفرض على حكامها خيارات صعبة في التعامل مع إسرائيل، أو تنحرف التظاهرات عن مسارها وتؤدي إلى الدخول في حلقة تخشاها دوائر رسمية عدة، وهي العودة إلى مربع الإصلاحات السياسية باعتبارها مسؤولة عن حزمة كبيرة من الإخفاقات والأزمات، بينها السكوت عن تضخم تهديدات إسرائيل.
على المستوى الشعبي، تتلاقى رغبات الجماهير مع الحكومات في التفاعل مع القضية الفلسطينية في زاوية أخرى، تتعلق بعجز كل منهما عن الاقتراب منها عبر أدوات سياسية أو عسكرية تقدم حلولا عملية تساعد على تخفيف وطأة الضغوط على المواطنين في الأراضي المحتلة، وأصبح التعاطف الرمزي واحدة من الوسائل الرئيسية للتنفيس عن طاقة غضب شعبي قابل لتغيير وجهته.
وجدت قطاعات كبيرة من المواطنين والنخب والحكومات أن خروج الطاقة المكبوتة في شكل تظاهرات عارمة ضد الأوضاع الداخلية، قد يتسبب في زيادة الأزمات ويجعل شبح بلدان، مثل سوريا وليبيا واليمن، يلوح في الأفق، الأمر الذي يفسر ارتفاع درجة الانضباط في الاحتجاجات التي يشهدها لبنان والجزائر، وبشكل أقل في العراق، ويتم غض الطرف عن ارتفاع وتيرة التعاطف مع الشعارات المنحازة إلى فلسطين.
النقطة الأهم التي يكشف عنها خطاب التفاعل مع القضية الفلسطينية، أن مفرداته الراهنة قريبة من التيار الإسلامي والمتحالفين معه من النخب اليسارية، وهذا لا ينفي وجود عناصر مشاركة من تيارات أخرى، ويميل هذا الفريق إلى التركيز على المناسبات التي تظهر فيها حركة حماس الفلسطينية كقائدة للمقاومة، بما يجعل عملية الانجذاب تبدو ممنهجة لدعم خطاب أدمن الهروب إلى الخلف، ويفتقر إلى تقديم رؤية صحيحة للأمام.
توقّف التجاوب عند الحدود اللفظية التي تدغدغ مشاعر الناس، ولم تظهر عليه معالم ناضجة تؤكد وجود خطة لمساعدة حقيقية للقضية الفلسطينية والخروج من عثراتها، أو دفع قوي باتجاه الضغط على الحكومات للقيام بتحركات محددة لنصرتها، والتصدي مباشرة لما تقوم به إسرائيل من عمليات متفرقة قصمت ظهر المرتكزات التي تستند عليها، ما يشير إلى أن الانفعال لحظي والأسباب رمزية، ولا علاقة له بمد قومي عربي أو إسلامي جديد.

محمد أبوالفضل  كاتب مصري

Related posts

Top