التيار الديني القومي الإسرائيلي ومستقبل الصراع

أصبحت الأحزاب الدينية -بشقيها- شريكاً من الدرجة الأولى في مؤسسات السلطة والمجتمع الإسرائيلي، وفي بلورة المواقف السلطوية والعمليات الاجتماعية، وأضحت ذات تأثير حاسم على الأحداث المركزية في إسرائيل وعلى مجرياتها السياسية، وقد برز هذا التيار في أعمال عنف قادها في الضفة الغربية والقدس كالاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى وخطف وقتل الطفل أبو خضير.
فالتيار الديني القومي يسعى إلى العيش وفق الشريعة اليهودية دون إقصاء أنفسهم عن الثقافة العلمانية المعتدلة، وعلى الرغم من اهتمامهم بالطابع الديني اليهودي للدولة، فأصبح ينظر إليهم في إسرائيل كعلمانيين بداخلهم نزعة إيمانية على عكس التيار الديني الحريديمي.

التأثير على الحياة بإسرائيل

سعى التيار الديني القومي منذ بداية نشأة دولة إسرائيل إلى الاندماج فيها والإقبال على المشاركة في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، حيث شكل العديد من الأحزاب والجماعات المحلية التي يجمعها الإيمان بالعقائد الدينية والقومية والرغبة في العمل كجماعة ضغط داخل الحكومة الإسرائيلية، وكان أبرزها حزب المفدال الذي شُكل عام 1956، وكان شريكاً في معظم الحكومات الإسرائيلية حتى عام 2008، قبيل اندماج حزب المفدال مع ائتلاف الاتحاد الوطني ليشكل البيت اليهودي بزعامة بينت، الذي حصل في انتخابات 2013 على 12 مقعداً.
بالإضافة إلى العمل السياسي، ينشط التيار الديني القومي في مجال الخدمة في الجيش الإسرائيلي، حيث تشير المعطيات الصادرة عن القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي عام 2008 أن 40% من الضباط في الوحدات القتالية هم من أتباع التيار الديني القومي، وترتفع نسبتهم في ألوية المشاة المختارة إلى 70%، ونتيجة هذه المؤشرات منع الجيش نشر معطيات أو إحصائيات حول حجم ظاهرة الضباط المتدينين منذ عام 2008.
ولا يكتفى أتباع التيار الديني القومي بالتغلغل داخل صفوف الجيش، بل يركزون في أولوياتهم على التغلغل داخل جهاز الأمن العام (الشاباك) الذي يعتبر من أكثر أدوات التأثير على صناعة القرار في إسرائيل، كما أن رئيس جهاز الشاباك الحالي يورين كوهين هو نفسه من أتباع هذا التيار.
صحيح أن التيار القومي يتمثل في حزب البيت اليهودي، إلا أن ذلك لم يمنعه من اختراق الأحزاب العلمانية الإسرائيلية وبشكل خاص حزب الليكود، وتُبنى إستراتيجية التيار على السيطرة على مفاصل الدولة حتى يتمكن من تنفيذ سياسته، كما أنه ينشط في القضايا المتعلقة بالصراع مع الفلسطينيين وتبني المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، ويقود المشاريع التهويدية في القدس والتي يرى فيها أن الرب اختصها لنفسه ولا يُعبد إلا فيها.

تزايد النفوذ في صناعة القرار

1. المشاركة في الحياة السياسية: تعتبر المشاركة السياسية أحد الأسباب المؤدية إلى تصاعد هذا التيار، فهو يشارك في الائتلافات الحكومية منذ انتخابات الكنيست الأولى عام 1949، وعلى الرغم من عدم تجاوزه 12 مقعداً خلال تاريخيه السياسي، فإنه كان عامل تأثير قويا في الضغط على الحكومات وانتزاع القرارات والمواقف المؤيدة لمشروعه، فقد لعب دور بيضة القبان في الائتلافات الحاكمة عقب عام 1977، وسعى للضغط على الأحزاب لتلبية شروطها المتعلقة بالاستيطان وتهويد مدينة القدس، كما مارست عليها ضغوط في حال موافقتها على قرارات متعلقة بوقف البناء الاستيطاني.
2. العامل الديموغرافي: يقدر عدد أبناء التيار الديني القومي داخل المجتمع الإسرائيلي بستمائة ألف، أي ما يقارب 8%، كما يعتبر التيار أكثر الأوساط زيادة في معدل الولادة، حيت تصل إلى سبعة أطفال لكل امرأة متدينة مقابل 1.4 لكل امرأة غير متدينة، كما تبلغ النسبة العامة لتأييد التيار الديني القومي في إسرائيل ما يقارب 20%.
3. انخراطهم في الجيش: ينخرط أتباع هذا التيار في الجيش بدافع عقائدي، كما أنهم يحرصون على الانضمام إلى الوحدات القتالية، ويعتبر أبناء هذا التيار أكثر الجنود المؤهلين للدخول في دورات الضباط نظراً لانتسابهم إلى مدارس ثانوية عسكرية يرعاها التيار.
4. المدارس الدينية: تعتبر المدارس الدينية التابعة لليهود القوميين من أرقى المدارس التعليمية وأنجحها، حيث تتميز بتقديم تعليم ومعلمين ذوي خبرة وكفاءة عاليتين، مما دفع العلمانيين إلى إرسال أبنائهم إليها، ليس من بعد أيديولوجي إنما للتعليم المميز، ولا تتوقف هذه المدراس على المواد العلمية بل تقدم مواد دينية تعكس وجهة نظر صهيونية متطرفة في صورة أرض إسرائيل الكبرى.
5. العامل الاستيطاني: تقدم الحكومات الإسرائيلية امتيازات كبيرة للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس، وتعتبرها تجمعات ذات أفضلية، فهي تعفيها من عدد كبير من الضرائب مما يؤدي إلى انخفاض أسعار الشقق فيها، الأمر الذي دفع الكثير من الإسرائيليين إلى تفضيل السكن فيها من علمانيين ومحافظين، مما أنتج نخبة إسرائيلية لا تعارض المشروع الاستيطاني، وأصبح بعضهم من أنصار التيار الديني القومي أو متأثراً بصورة كبيرة بأفكاره.

رؤية للصراع مع الفلسطينيين

تنبثق رؤية التيار الديني القومي قضايا الصراع الفلسطيني من إيمانهم بأحقيتهم في دولة إسرائيل الكبرى، أو ما يُعرف توراتياً بأرض كنعان، التي وردت في أسفار العهد القديم مثل “كل موضع قدم تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته”، فهم يرون أن دولة إسرائيل يجب أن تضم شمال سيناء بالإضافة إلى فلسطين والأردن ولبنان وأجزاء من سوريا والعراق.
ويؤمنون بأن القدس هي عاصمة دولة إسرائيل، ويرون في الاستيطان حقاً وتمدداً طبيعياً لدولتهم الكبرى، كما يرون في الفلسطينيين أغيارا لا حق لهم بأرض فلسطين، ويجب طردهم وترحيلهم، وبالتالي فهم لا يعترفون بأي حق للاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم.
لذلك فهذا التيار يعمل على تأجيج الصراع من خلال:
1. مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات: على الرغم من أن الاستيطان في الضفة الغربية والقدس بدأ بعد حرب 1967، فإن القفزة الحقيقية للاستيطان كانت بعد صعود الليكود للحكم عام 1977، وإدخال الأحزاب الدينية كشريك أساسي حتى بلغت عدد المستوطنات 221 مستوطنة إسرائيلية.
يقابل هذا المسعى الصهيوني برفض شعبي فلسطيني مطلق، مما يؤدي إلى مزيد من المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
2. الاعتداء على الفلسطينيين: تتوسع الاعتداءات على الفلسطينيين مع تنامي نفوذ التيار القومي، كان أبرزها مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994، وتشكلت جماعات علنية تبيح قتل وسرقة الفلسطينيين والاعتداء عليهم، كحركة “هذه أرضنا”. ومنذ عام 2008 برز شعار “جباية الثمن” رداً على أية محاولة إسرائيلية لإخلاء بؤر استيطانية أو أية عمليات فلسطينية تستهدف الإسرائيليين، وارتفعت وتيرتها مع تقدم الزمن كقتل الطفل أبو خضير حرقاً في منتصف عام 2014.
كما يؤثر بعض الحاخامات على الجيش من خلال حثهم وتحريضهم على قتل الفلسطينيين، مشددين على أنه لا يوجد مدنيون بينهم، وبرزت قيادات التيار في العدوان الأخير على قطاع غزة 2014 كقائد لواء جفعاتي الذي خاض الحرب تحت شعار “فاتحة كتاب التوراة”، وارتكب هو وقواته مجزرة خانيونس، وكذلك مجزرة رفح التي أوقعت ما يقارب مائة شهيد فلسطيني، كما عمل على نقل معلومات إلى رئيس حزب البيت اليهودي عن مجريات المعركة في قطاع غزة.
3. اقتحام المسجد الأقصى: بلغ عدد المستوطنين والجنود والوزراء الذين اقتحموا المسجد الأقصى عام 2014 ما يقارب 15 ألفا، كوزير الاستيطان والإسكان ووزير الأمن الداخلي ونائب وزير المواصلات ونائب رئيس الكنسيت ونائب وزير الخارجية، ويعد الرابط المشترك بين جميع هذه الشخصيات أنهم من خريجي المعاهد الدينية، التي تؤمن بضرورة هدم المسجد الأقصى، وكل ذلك يجري مع تزايد وارتفاع وتيرة الحفريات التي وصلت إلى 47 حفرية تحت المسجد الأقصى.
التيار ومستقبل الصراع

في ظل تنامي نفوذ التيار الديني القومي في إسرائيل وجنوح المجتمع نحو مزيد من التطرف، فإن الوضع الفلسطيني سيُقاد إلى تجذر الصراع، وانعدام فرص نجاح عملية التسوية السلمية بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية، مع استمرار سياسة إدارة الصراع بما يضمن عدم التوصل إلى حل جوهري، وسنكون أمام توسع في البناء الاستيطاني على حساب المناطق الفلسطينية، بما يمهد لصياغة مشاريع لضم المناطق “ج”.
  وستستعر مشاريع التهويد في مدينة القدس، ومحاولة طمس المعالم الإسلامية فيها، والتشديد على أهلها لدفعهم للخروج منها، وستزداد وتيرة الاقتحامات والاعتداءات، وسيسعى التيار لسنّ قوانين التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.
كما سيتجند التيار للعمل على تطبيق القانون الإسرائيلي على مستوطنات الضفة الغربية، أمام هذه الخطوات سيشهد المجتمع الإسرائيلي زيادة في التطرف وتنامي العداء للفلسطينيين، وتصاعد ظاهرة جباية الثمن والاعتقاد بوجوب قتل وطرد الفلسطينيين كوسيلة لتصفية القضية.
هذه النتائج المتوقعة ستصبغ الصراع بالصبغة الدينية، ما يسهم بشكل فاعل في تأجيجه، وقد يصل إلى حد المجازر والانتفاضات في السنوات القادمة، وسيصعب معها احتواء الأحداث.

حظوظ التيار في الانتخابات

يشكل المستوطنون في الضفة الغربية والمتدينون الأشكناز القاعدة الانتخابية الأساسية لحزب البيت اليهودي الذي يمثل رأس التيار القومي الديني، كما يسعى رئيس الحزب الحالي نوفالي بينت إلى توسيع قاعدته الانتخابية لتشكل جزءاً من العلمانيين القوميين من أجل تحقيق حلمه في الوصول إلى كرسي رئاسة الوزراء.
ويمثل التيار أقصى اليمين الإسرائيلي، وحصل على 12 مقعداً في انتخابات عام 2013، وشارك بفعالية في حكومة نتنياهو، وتشير الاستطلاعات إلى إمكانية حصول الحزب على ما بين 12 و15 مقعداً في الكنيست القادم، مما سيجعله قوة لا يمكن لأية حكومة إسرائيلية أن تمر دون مشاركته فيها.
ومن المتوقع أن يكون شريكاً رئيسياً في حال شكّل نتنياهو الحكومة القادمة، وهذا احتمال كبير، فالمعسكر اليميني في إسرائيل لا زال يمتلك الغلبة والقدرة على تشكيل الحكومة الإسرائيلية، مما يعني أننا أمام تصاعد وتأجيج للصراع مع الفلسطينيي

  بقلم: حمزة إسماعيل أبو شنب*
*باحث ومحلل سياسي مختص بالشأن الفلسطيني

Related posts

Top