اضطهاد العلماء والفقهاء.. شذرات من مظاهر الصراع الفكري في تاريخ المسلمين -الحلقة 17-

منذ أسابيع، اشتعلت نار السجال واشتد أوارها على مواقع التواصل الاجتماعي بين الأخصائي في التغذية المثير للجدل محمد الفايد وبين عدد من فقهاء الشريعة ببلادنا، بل تخطت هاته «الفتنة» الحدود عندما دخل عدد من علماء وأساتذة الفقه في عالمنا العربي والإسلامي ليدلوا بدلوهم في الموضوع، فالأمر جلل عندما يتعلق بالحديث عن مسائل ترتبط بالمعتقد الديني من قبيل رحلة الإسراء والمعراج ويوم الحساب الأكبر ومصير المسلمين والكفار بين الجنة والنار.. تلك هي المحاور التي تجرأ الفايد على الخوض فيها، خلال مونولاجات تحظى بمتابعة واسعة على قناته على موقع «يوتيوب»، قناة اكتسبت شعبيتها في زمن كورونا بفضل نصائح الفايد الوقائية والعلاجية من الوباء عن طريق نظام يمزج بين التغذية الصحية وأنواع من مغلي الأعشاب.
ولم يشفع للفايد الذي يقول عن نفسه إنه «دكتور دولة ودارس للشريعة وحافظ لكتاب الله ويتحدث سبع لغات»، تاريخه المدافع عن التراث الإسلامي خاصة في مجال الإعجاز العلمي في القرآن وفي الأحاديث النبوية فيما يرتبط بالتغذية الصحية، حيث وجد نفسه في قلب الإعصار جراء سيل من الانتقادات والهجومات وصل حد السب والشتم والوصم بالزندقة والتكفير.. وزاد من حدة السجال انبراء جيش متابعي ومعجبي الدكتور الفايد للدفاع عنه والرد بنفس أسلوب «المقابلة» على منتقديه. ولم تهدإ العاصفة على الرغم من إصدار الفايد لاحقا لبيان «توضيحي» يؤكد فيه عدم إنكاره للثابت من الدين بالضرورة واحترامه للعلوم الشرعية مع طموحه إلى أن يجمع علماء المسلمين بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية.. استدراك الفايد لم يسلم بدوره من الانتقاد والتمحيص والتدقيق، في إطار فصل المقال فيما يتردد ويقال حول ماهية العلوم الكونية وموقع العلوم الشرعية، وعن أهلية المتحدثين والعلماء المُحدَثين للخوض في مسائل الدنيا والدين…
«الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».. وفتنة الخلاف في الرأي والتشدد له ليست وليدة واقعة الفايد مع علماء الشريعة ببلادنا، بل تكاد تكون رديفة لتاريخ الإسلام والمسلمين منذ وفاة الرسول الأكرم عندما اندلع الخلاف حول من يخلفه في إمامة المصلين وقيادة الأمة الإسلامية آنذاك. ويشهد النص القرآني نفسه على عدد من الوقائع حتى في حياة الرسول حيث احتدم الخلاف بين أصحابه وكان الوحي وحده هو القادر على كبح جماح صراعهم والحافز لإعادتهم إلى وحدة الصف خلف قائدهم رغم ما يفرقهم من عدم اصطفاف في الرأي ووجهات النظر.
كما تعيد هذه الواقعة إلى الأذهان ما تحفل به صفحات التاريخ الإسلامي من حكايات عن الحروب بين «العلماء والفقهاء» المسلمين، كما يصنفهم البعض، على الرغم من أن أغلب علماء المسلمين في الرياضيات والفيزياء والطب يشهد لهم التاريخ أيضا بأنهم كانوا على جانب كبير من التفقه في الدين، وعلما أن عددا من فطاحلة الفقه في تراثنا الإسلامي بدورهم لم يسلموا من تهم التكفير والزندقة. ويسجل التاريخ كذلك أن السجالات التي كانت سببا في «الاضطهاد» والقتل الحقيقي والمعنوي اللذين تعرضت لهما تلك الشخصيات الإسلامية، كانت في نفس الوقت، وهي مفارقة أبدية، عنوانا لحرية التعبير والصراع بين الأفكار في ظل ثورة فكرية وإنسانية عجيبة عرفها المجتمع الإسلامي على امتداد قرون بعد وفاة الرسول، لم يتردد روادها في الخوض حتى في الإلاهيات وفي تحليل النص القرآني من منظور فلسفي.. ولازالت آثار تلك الجرأة الفكرية مستمرة إلى يومنا في تعدد المذاهب الناتج عن تعدد الفرق الكلامية والأقوال الفقهية للسلف..
في هذه السلسلة، نحاول أن نعيد تسليط الضوء على هذا الجانب المثير من التاريخ الفكري للمسلمين، نذكر فيها بشخصيات كانت مثار جدل وصراع اختلط وتأثر فيه التفكير الديني بالمؤثرات السياسية والإنسانية للمجتمع. ثم نعرج لاحقا على بعض ما أنتجه المفكرون المسلمون أيضا من أدبيات ترمي إلى تأطير الاختلاف والحد من أثاره المدمرة على الأشخاص وعلى المجتمع، وذلك في سياق ما أسموه بـ»فقه الاختلاف» الذي أفردوا له جانبا مهما من جهودهم في البحث والتأمل والتأصيل.

أقوال في الاختلاف

يقول الحافظ بن رجب : (ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض فإن كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.
وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقاتلته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (انتهى كلام الحافظ وهم كلام في غاية الفضل).
قال الشافعي : “ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”. وقال : “ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته” – قواعد الأحكام
رفض مالك حمل الناس على الموطأ!
قال مالك للخليفة العباسي – حينما أرد حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه – لا تفعل يا أمير المؤمنين معتبراً أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.
قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه : أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.
كان الذهبي مثل العالم المتفتح المنصف
فقد قال الذهبي عن الشيخ عبد الستار المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى : “أنه قل من سمع منه لأنه كان فيه زعارة وكان فيه غلو في السنة ” وقال عنه : “وعني بالسنة وجمع فيها وناظر الخصوم وكفرهم وكان صاحب حزبية وتحرق على الأشعرية فرموه بالتجسيم ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس”. اعتبر الذهبي ذلك حزبية.
وقال الذهبي عن القاضي أبي بكر بن العربي : “لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط وبالغ في الاستخفاف به وأبو بكر على عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد ولا يكاد فرحمهما الله وغفر لهما”.
وكان الذهبي يثني ثناء عاطراً على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف. ثم يتعذر الذهبي عن الظاهرية قائلاً : “ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني وتندر مخالفتهم الإجماع القطعي”.
ثم ذكر أنهم ليسوا خارجين عن الدين.
وقال عنهم : “وفي الجملة فداود بن علي بصير بالفقه عالم بالقرآن حافظ للأثر رأس المعرفة من أوعية العلم له ذكاء خارق وفيه دين متين وكذلك فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر وذكاء قوي فالكمال عزيز والله الموفق”.
ويقول الذهبي :”ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج بغير إنزال وأشباه ذلك ولا يجوز تقليدهم في ذلك “.
وقال : ” كل فرقة تتعجب من الأخرى ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يغفر له من هذه الأمة المرحومة “.
ويقول ابن تيمية : ” وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا علن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله “.
وقال أيضاً : ” الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع “. ( الفتاوى 22 – 254 )
المعاداة بين المختلفين في الاجتهاد اتباع للهوى
يدخل الخلل في الموالاة والمعاداة حين يكون الاتباع للهوى وحيثما وجد التفرق كان مبعثه الهوى لأن أصل الاختلاف الاجتهادي لا يقتضي الفرقة والعداوة وقد جعل الشاطبي هذا الأصل مقياساً لضبط ما هو من أمر الدين وما ليس منه فقال : ( فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلفت الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في في شيء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ).
ووصف الشيخ تقي الدين بن تيمية من يوالى موافقه ويعادي مخالفه ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات ويستحل قتال مخالفة بأنه من أهل التفرق والاختلاف ( الفتاوى 7- 349 )
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفاً قائلاً : ” لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب “.
وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال الخلاف شر. ( الفتاوى 22 – 407 )
رأي النووي في الطائفة المتصورة : ” ويحتمل أن هذه الطائفة تفرقت بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض في أقطار الأرض “. ويقول الذهبي في ميزان الاعتدال من ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : “كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما عملت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين”.
قال أحمد: “لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفان في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا”.
(صيد الفوائد)

< إعداد: سميرة الشناوي

Related posts

Top