المشاركة في الحكومة والحاجة إلى تقوية الأداة الحزبية

يتسم السياق الذي تجتمع فيه اللجنة المركزية لحزب التقدم والاشتراكية بدقة المرحلة، بالنظر لإفرازات نتائج الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر، وارتباطها بعدة قضايا في غاية من التعقيد ذات الصلة بعملية الانتقال الديمقراطي من مرحلة ما قبل دستور 2011 إلى ما بعده، في ظروف عامة تكمنت بلادنا من تدبيرها بنجاح، بفضل تبصر صاحب الجلالة، ويقظة الشعب المغربي ومختلف الفاعلين السياسيين، في محيط إقليمي غير مستقر بسبب تبعات الحراك الاجتماعي والسياسي التي لازمت المنطقة العربية منذ سنة 2011.
في هذا الخضم، فقد اختار حزب التقدم والاشتراكية، وبأغلبية واسعة، المساهمة في الحكومة المنتهية ولايتها، وسبق اتخاذ هذا القرار الصعب مخاض عسير ونقاش عميق بالنظر لما كان ولازال من خلاف بين حزبنا ذي المرجعية الاشتراكية الواضحة، وحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية والحساسية الإسلاموية المعلن عنها، والذي تصدر الانتخابات التشريعية في محطتي 25 نوفمبر 2011 و7 أكتوبر 2016. ولم يكن لحزبنا أن يتخذ هذا القرار الجريء والذي ينطوي على مخاطرة كبيرة لولا رصيده النضالي وقدرته الهائلة على التحليل العميق للمجتمع المغربي، وقدرته على التكيف مع الواقع وإعماله لتحليل عميق لمختلف المراحل التي مرت منها بلادنا على مر العقود السبعة من تاريخه، وهذه القدرة هي التي أهلته ليستمر في البقاء، بل ويعزز موقعه في المشهد السياسي المغربي، عكس الأحزاب المماثلة في العالم العربي وغيرها والتي أصبحت شبه غائبة إن لم تندثر تماما.
وقد تمكن حزب التقدم والاشتراكية من الصمود في وجه الرجات السياسية المختلفة التي كانت تحاك ضده بفضل الذكاء الجماعي لمناضلاته ومناضليه، حيث تمت مراكمة مجموعة من الأدبيات والتحاليل التي يشهد الخصوم قبل الأصدقاء بجديتها وصواب المواقف المعبر عنها والتي تتأسس على الواقعية السياسية واستحضار المصلحة العليا للوطن والشعب، وإدراك سليم لطبيعة التناقضات والعمل من أجل بناء الدولة الديمقراطية الحديثة وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وقد شكلت انتخابات 7 أكتوبر فرصة سانحة وتاريخية قد لا يتاح مثيل لها ليصبح حزب التقدم والاشتراكية أول قوة يسارية في البلاد، والتي بإمكانها أن تحقق حلم وحدة اليسار وإبرازه كقوة سياسية واجتماعية ذات تأثير على الأحداث. إلا أن ذلك الحلم لم يتحقق مع الأسف، حيث سجل الحزب تراجعا مقلقا في عدد المقاعد البرلمانية مقارنة مع النتائج المحصل عليها سنة 2011، كما عرفت نتائج الأحزاب اليسارية الأخرى تراجعا مدويا، وأصبحت معه الأحزاب اليسارية لاسيما الصغيرة منها مهددة في وجودها بسبب تبعات هذه النتائج والتي تحول دون الاستمرار في إسماع صوتها من داخل المؤسسات، ويجعلها عاجزة عن تعبئة مجموعة من الفئات والطبقات الاجتماعية التي كانت تساند اليسار في مرحلة من مراحل البناء الديمقراطي للبلاد، ويحول دون نهضتها وتعافيها من مجموعة من الأسقام التي تنهك جسدها التنظيمي المثقل بنزاعات مشخصنة، حيث أصبحت هذه الأحزاب وسيلة لتدبير مسارات ذاتية صرفة عوض أن تكون واجهة للنضال من أجل استتباب الأفكار والقناعات، ووسيلة لتأطير الجماهير وتعبئتها لخوض المعارك النضالية المختلفة.
ولفهم أسباب هذا التراجع الذي شكل صدمة قوية، لابد من تحليل عميق وموضوعي يترفع على حب الأنا والذاتيات والانصياع وراء الحلول السهلة، وعدم إطلاق أحكام مسبقة على كل من له رأي قد يختلف مع رأي آخر، وأن نسائل ذواتنا، كل من موقعه، وكل من مسؤوليته، علما أن الجميع يتحمل المسؤولية في هذه النتائج، وعليه أن يقدم الحساب بكل جرأة ولكن بصفة متناسبة مع درجة المسؤولية، إذ أن المسؤولية التي يتحملها كاتب فرع حزبي محلي، ليست هي التي يتحملها عضو في اللجنة المركزية أو في المكتب السياسي، أو بالأحرى تلك التي يتحملها الأمين العام للحزب وناطقه الرسمي، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمواقف متسرعة لم تستحضر بما فيه الكفاية طبيعة التناقضات والإفرازات الاجتماعية والسياسية التي يتميز بها المجتمع المغربي في الوقت الراهن، وكذا نوعية الخطابات المستوحاة أحيانا من قاموس غريب عن قاموس حزب التقدم والاشتراكية، ناهيك عن مجموعة من السلوكات الغريبة في ظل أوضاع تنظيمية سمتها العامة هي الضعف والهشاشة، والتي لم يتم إيلاؤها ما يكفي من الاهتمام اللازم في حينه لمعالجة ما يمكن معالجته، والتي أدت في النهاية إلى التواجد أمام جسم مشوه تتجلى ملامحه العامة في هيكل تنظيمي هزيل برأس كبيرة، وهي الوضعية المخيفة التي لم يسبق أن عرفها الحزب في الماضي.
وقد كان هذا الوضع منتظرا بعد أن تم التخلي بصفة تدريجية وشبه كاملة على الذراع النقابي للحزب، والتنصل من الالتزامات اتجاه مطالب الشغيلة في الوقت الذي أصبحت الطبقة العاملة تمثل اليوم أزيد من 5 ملايين نسمة. وفي ذات الوقت، فإن الحزب لم يعد له تواجد ملحوظ في منظمات المجتمع المدني والمنظمات المهنية، وفي أوساط الشباب والنساء والطلبة والمثقفين والمبدعين، علما أن هذه المسؤولية تتحملها أيضا باقي أحزاب الصف الديمقراطي واليسار على وجه الخصوص.
واليوم، لابد لنا من الوقوف بتأن ورزانة على هذه القضايا إن نحن أردنا أن نعيد لحزبنا، حزب التقدم والاشتراكية، وهجه ومكانته في المشهد الحزبي، وهي المسألة الجوهرية التي يجب أن نطرحها على أنفسنا اليوم، والتي تعتبر أكثر أهمية وعمقا من الإجابة على سؤال المشاركة في الحكومة والذي تم الحسم فيه قبل الدعوة لانعقاد اجتماع اللجنة المركزية للحزب، في الوقت الذي لا نتوفر فيه على خيارات أخرى سوى المشاركة، شريطة الاستفادة من تجربة المشاركة السابقة، وإعادة النظر في كثير من الأمور، وفي مقدمتها مسألة الهوية الحزبية وتقوية مناعة الحزب وتوسيع صفوفه على أسس متينة، والاهتمام بقضايا المواطنين، وعلى الخصوص الفئات الاجتماعية التي خلق الحزب من أجلها، وهي الطبقة العاملة والفلاحين والمنتجين الصغار..

بقلم: عبد السلام الصديقي

Related posts

Top