كاد نوربرت هوفر زعيم اليمين المتطرف في النمسا أن يفوز في الانتخابات الرئاسية، ولكن الهلع الذي رافق جولتي الانتخابات يتصل بإطلالة وجه جديد من الفاشية مع انتشار خطاب القطيعة عبر القارات ومقولة رفض الآخر والتطرف على أنواعه وحروب الهويات والحضارات. وليس من المصادفة أن يحصل ذلك في النمسا التي تقع في وسط أوروبا، ويمكن أن تعكس هذه الدولة كل ما يجري في تلك القارة من انهيار في منظومة القيم ومن تحديات متصلة بمواضيع اللجوء والهجرة وموقع أوروبا في العالم.
ساد الارتياح عند القادة الأوروبيين، وعند الكثير من صناع القرار في العالم إثر الإعلان عن فوز المرشح عن حزب الخضر، فان دير بيلين بنسبة 50.3 بالمئة من الأصوات بفارق ضئيل عن منافسه من حزب الحرية اليميني المتطرف، نوربرت هوفر، والذي حصل خلال الجولة الأولى على 35 بالمئة من الأصوات مقابل 21 بالمئة لمنافسه دير بيلين.
بيد أن هذا الارتياح يمكن أن يكون مؤقتا أو قصير المدى، لأن اليمين الليبرالي والكلاسيكي يخسر مواقعه أمام حالة شعبوية يمينية غدت تيارا سياسيا متجذرا في أوروبا، وقوة لا يمكن الالتفاف عليها في المنافسات الانتخابية. وهذا التيار ليس من الضروري أن يكون نسخة عن الأنظمة اليمينية المتطرفة الأشهر في التاريخ والمتمثلة بنظامي أدولف هتلر وبينيتو موسوليني: فالرجلان كانا يدعوان إلى استعمال العنف للوصول إلى السلطة. وكانا من المؤمنين بالتفوق العنصري. واليوم ينضوي في إطار التيار الشعبوي اليميني: اليمين المتطرف المعاصر (الأحزاب المناهضة للهجرة ولسياسة اليسار، والمعارضة للوحدة الأوروبية)؛ القوى المعادية لليبرالية والقوميين وغلاة المحافظين.
يشبه فوز مرشح الخضر النمساوي فوز جاك شيراك في الانتخابات الرئاسية بفرنسا في العام 2002، على حساب مرشح حزب الجبهة الوطنية جان ماري لوبان. لكن الجبهة الجمهورية حينها أوصلت نسبة تأييد الرئيس الفرنسي الأسبق إلى 82 بالمئة من الأصوات، ويدل ذلك على تعاظم نفوذ هذا التيار اليميني المتشدد الذي تحكم أحزاب منه بولونيا والمجر حاليا. والأدهى أن هذه القوى الصاعدة تجمع أيضا بين المعادين للفكرة الأوروبية والعولمة، والرافضين بقوة للهجرة واللجوء تحت عناوين عنصرية ومعادية للغرباء. ويتفاقم الانكماش والتزمّت عند هذا التيار مع الخطاب المعادي للنخب وللحركات النسائية عبر تطوير أطروحات تتصل بتمجيد الماضي الأوروبي.
ونظرا إلى أن عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا في العام 2015، كان الأكبر منذ عقود، ونظرا لضرب الإرهاب أوروبا مع ما رافقه من خلط مع الإسلام وتشويه لصورته، لا تتردد بعض الأوساط الأوروبية في الرجوع إلى حقبة غابرة، واستنساخ ما تسميه “الفتح الإسلامي الجديد” وهو في نظر بعض المروجين لهذه الفكرة، يعتمد على التوسع الديموغرافي والعنف والإرهاب.
يزداد القلق لأن الحالة النمساوية ليست معزولة، ففي أوروبا يصوّت الناخبون أكثر فأكثر لمرشحي اليمين المتطرف. ولا يقتصر الوضع على القارة العجوز، فمواقف المرشح الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية دونالد ترامب تحمل بصمات التشدد واليمين المتطرف، وكذلك سياسات رئيسي البرازيل والفيليبين الجديدين التي يمكن إدراجها في نفس الاتجاه.
لا يمكن الاستخفاف بالإنذار النمساوي وبمخاطر تنامي نزعة العنصرية والإقصاء في أوروبا والعالم، إذ يمكن أن نكون أمام آخر محطة قبل أن يصبح هذا التيار اليميني الجديد قادرا على الاستيلاء على السلطة في البلدان الديمقراطية العريقة في أوروبا، ولا سيما بعد الخرق الذي تم تسجيله في الانتخابات الإقليمية الألمانية والانتخابات التشـريعية السلوفـاكية، وكذلك اتساع شعبية الجبهة الوطنية في فرنسا. وقد تشكّل نتائج الاستفتاء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (23 يونيو القادم)، مؤشرا مهمّا حول نزعة الرأي العام الأوروبي.
بالطبع، لم يهادن نوربرت هوفر، مرشح اليمين الشعبوي النمساوي، إذ وعد ناخبيه بأن هذه الانتخابات هي بمثابة “استثمار للمستقبل”. وعلى نفس المنوال اعتبر فلوريان فيليبو، النجم الصاعد في الجبهة الوطنية في فرنسا، “أن هذا الإنجاز التاريخي يؤسس لنجاحات مستقبلية للحركات الوطنية في أوروبا”.
وممّا لا شك فيه أن الانكشاف الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي وعدم تحوله إلى قطب سياسي عالمي وازن، كما حال الولايات المتحدة الأميركية أو الصين أو روسيا، لا يساعدان على تحصين متانته الاقتصادية، إذ أصبح في نظر الكثيرين المرادف للتقشف والبطالة، ويعطي ذلك الذرائع لأصحاب الخطاب الانعزالي والقومي.
وتتعدد أسباب الغضب والقطيعة، فمنها العطل الذي أصاب المشروع الأوروبي وأوقف ديناميته، وانعكاسات العولمة غير الإنسانية، إضافة إلى مظاهر انعدام المساواة وأزمة الطبقات الشعبية. لذا لا بد من أجوبة مناسبة ومن تحليل معمّق لأسباب تحول الرأي العام الأوروبي؟
لا ينفع الندم أو مجرد الارتياح أو التعويل في آخر لحظة على الوثبة الوطنية لمن يعادي التشدد كما حصل يوم 22 مايو في النمسا. بل المطلوب ممارسة للحكم وللسياسة بشكل آخر، وعدم نسيان التنشئة الصحيحة ومنظومة القيم والمثالات المشتركة للإنسانية.
خطار بودياب*
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس