حمار بوريدان

حمير السياسة، يفترضون دائماً أن ضحاياهم بلا عقل ولا إرادة، فيتعمدون تجويعهم وتعطيشهم، لكي يصبح مصيرهم الضياع صنو الموت.
كان الفيلسوف والكاهن الفرنسي جان بوريدان، الذي ولد في السنة الأولى من القرن الرابع عشر، قد كتب الكثير عن نظريات الطبيعة، التي تبحث في العلاقة المتداخلة بين وزن الكتلة وإيقاع وقوة الدفع في حركتها وسرعتها، حتى وصل العلماء من خلال نظريات هذه العلاقة إلى “تدبير” انطلاق الطائرات الضخمة في الأجواء بسرعة تزيد عن سرعات سواها من الطائرات الأخف وزنا بكثير!
على الرغم من ذلك لم يُعرف بوريدان، إلا من خلال تجربة نُقلت عنه ولم تظهر في كتاباته، وهي التي سمّاها اللاحقون “حمار بوريدان”. فتلك التجربة كانت عملية افتراضية لقياس فداحة النتائج عندما يغيب العقل المسبب لغياب الإرادة. تخيل الرجل حماراً جائعاً وطال أمد عطشه. وضعه بوريدان بين كومة قش وسطل ماء، فتردد الحمار بأيهما يبدأ: بالماء لكي يطفئ ظمأه أولاً أم يبدأ بالطعام؟ فالاحتياج للشيئين متساو عنده والخياران متشابهان، والدافع إلى ابتلال العروق مساوٍ للدافع إلى ملء المعدة. وطالما أنه بلا عقل، فهو حُكماً بلا إرادة ولا يستطيع أن يحدّد وجهته، لذا يمسك الحمار عن الطعام والشراب، حتى يموت جوعاً وظمأً.
يبدو أن حمير السياسة، افترضوا إمكانية تطبيق نظرية الحمار المحروم من الطعام والماء، على أصحاب الحقوق من البشر، إذ يمكن تجويعهم وتعطيشهم وخنق حركتهم، لكي يصبحوا أمام اختيارات صعبة. والنتيجة أن صعوبة الاختيار سوف تؤدي إلى الموت، إن لم يكن بسبب انعدام العقل وانعدام الإرادة تالياً، فليكن بسبب وجود العقل وعدم امتلاك صاحب الإرادة وسائل تفعيلها!
 لكن حمير السياسة، يفترضون دائماً أن ضحاياهم بلا عقل ولا إرادة، فيتعمدون تجويعهم وتعطيشهم، لكي يصبح مصيرهم الضياع صنو الموت.
كان توفيق الحكيم المتأثر بالأدب الفرنسي، قد خصص رواية لحمار صغير رضيع، أبيض وجميل، كأنه صُنع من رخام، في تلك السن جحشاً. ابتاعه لكي يجعله وسيلة إيضاحية يشرح من خلالها لصديقه الفرنسي، الفارق بين حياة الريف المصري الرثة آنذاك، والريف الفرنسي الأنيق. أدخل الجحش إلى غرفته في الفندق بمساعدة خادم، وعندما حاول إسقاءه الحليب رفض، ونصحه أحدهم بأن الرضيع يتغذى بواسطة ثدي طبيعي أو رضاعة بثدي مطاطي. خرج لكي يجلبها من صيدلية، ونسي باب الغرفة مفتوحاً، وعندما عاد وجد الجحش في غرفة سيدة فرنسية جميلة، يتأمل صورته في المرآة. فقال إن شأن حماري شأن الفلاسفة، يبحثون عن أنفسهم في كل مرآة، ولا يُعيرون الجميلات التفاتاً. والنتيجة أنه حتى الجحش نفسه، اختار أن يتأمل كينونته، غير مكترث للغواية ودون الوقوع فيها!

علي صادق 

كاتب وسياسي فلسطيني

الوسوم ,

Related posts

Top