حينما تبوح المرأة حنينا وأنينا تمردا ضد سلطة المجتمع

> د . ندير عبد اللطيف
بعد مشاركتها الوازنة في كثير من مهرجاناتنا المسرحية الدولية لهذه السنة في كل من فاس  (يوليوز 2015) وكلميم (أكتوبر 2015) والدار البيضاء ومراكش (نونبر 2015) تحل فرقة مسرح البهجة من القطر الجزائري ضيفة شرف على الدورة الخامسة من الويكاند المسرحي للشباب لفرقة “مسرح أبعاد” وعرضت في افتتاحه مسرحيتها راحلة.
    وراحلة عرض مسرحي بصيغة المؤنث في تيمته وإنجازه ورؤيته الفنية: إذ التأليف والإخراج والتشخيص أثثت فضاءه مبدعات، فالنص للمغربية مريم بوعلاق، والإخراج والتشخيص للممثلة الجزائرية الرائدة توناس ايت واعلي، والاستشارة الفنية لجميلة زقاي. في حين كانت السينوغرافيا لنور الدين بطوش وتلحين وغناء حسين مختار.
يجسد نص راحلة محنة المرأة في المجتمع الجزائري/ العربي التي تعاني فيه الكثير من المحن وتكابد مجموعة من المآسي، فهي تنشأ في وضع متخلف ومتزمت تحكمه تقاليد قاسية، وأعراف لا تعترف بحقوق المرأة، ولا بموقعها في بنية مجتمع لا يرحم أحاسيسها، ولا يستمع إلى وجعها ولا يعير أي اهتمام لواقعها.
انطلاقا من هذه الفكرة يتأسس موضوع هذه المسرحية التي اختارت مؤلفتها تسليط الضوء على أربع مراحل من حياة امرأة، صرخت بصوت مرتفع وباحت بما تختزنه ذاكرتها من مواجع تراكمت مع الزمن لتفجر ذويها بصوت عال ومسموع، وتكسر بذلك طوق الصمت الذي عانت منه كثيرا منذ أن كانت طفلة إلى أن أصبحت أما، فهي جريحة ومكلومة من سلطة الرجل والأسرة والمجتمع.
تبدأ المسرحية أولا بمأساة هذه المرأة مع جيرانها، وصراعها اليومي الذي لا ينتهي بالمشاكل بسبب الميز والحيف وبسبب السلوك الاجتماعي غير السوي، فتنبش ذاكرتها عن طريق الاسترجاع لتتوقف عند كل تجليات هذا الظلم، الذي يسلب من الأنثى كل حقوقها ويجردها من شخصيتها الإنسانية، فلا حق للأنثى في التدريس والأكل، بل ولا حق لها في الحياة، في المقابل تتوزع كل الحقوق للذكر بشكل مجحف وظالم، لذلك فهي تنشأ محرومة من كل شيء.
في المحطة الثانية تعيش هذه الأنثى خارج أسرتها وفي بيت زوجها حيث زوجوها وهي ابنة خمس عشرة سنة، دون سن الزواج ودون أخذ رأيها واستشارتها، وكأنها خلقت في هذا المجتمع خطأ، فتتحول من خادمة في بيت أسرتها إلى خادمة في بيت زوجها، فتتزوج مرغمة، وتلد مرغمة بنتا، لتكون هذه الأخيرة امتدادا لمأساتها التي لا تنتهي والنتيجة الطلاق والضياع والتشرد.
المحطة الثالثة من مأساة هذه المرأة، تتجسد في سلطة الزوج حين احتفظ بالحضانة وزج بالأم في السجن لا لسبب سوى مطالبتها بابنتها، وتنتهي هذه المحطة بخروجها من الأسر واسترجاع ابنتها من الزوج.
المحطة الرابعة والأخيرة تتزوج هذه المرأة من جديد، فتتحسن أوضاعها وتسترجع قوتها وتعود إليها الابتسامة من جديد، لكن هذه الأجواء لم تدم طويلا، حيث ستفاجأ من جديد بمأساة لم تكن في حسبانها، ذلك أنها عند عودتها يوما إلى منزلها ستجد ابنتها غارقة في الدموع والدماء بعد اغتصابها بشكل عنيف من طرف زوجها، فتنبعث المأساة من جديد، وتنتفض على واقع ليس من اختيارها، فيزداد احتجاجها فلا يوقفه سوى الصراخ والأنين احتجاجا عن وضع سيء لمجتمع لا يعترف بحق المرأة في الحياة والوجود.
داخل هذا الوضع المأساوي تفننت المخرجة في البحث عن كثير من الإبدالات التقنية المساعدة على إثارة الغضب واستفزاز نفسية المتلقي ومشاعره للتأثير فيه، مع تكثيف وتأجيج الصراع النفسي الداخلي للشخصية المونودرامية المشاركة في هذا العرض، لذلك كان لاختيار الموسيقى والمونولوغات المؤثثة والألحان الموحية والمعبرة الدور الفاعل في السمو بالعرض إلى أعلى المدارج، والرقي به إلى مستويات جمالية وفنية أثرت في جمهور المتلقين وجعلتهم ينخرطون فيه بكل عفوية وتلقائية.
وبما أن المسرحية مونودرامية، فقد عانت الممثلة تونس ايت واعلي الكثير من التعب والجهد أثناء عملية التشخيص لأن تنقلها على خشبة المسرح وظف في كل الأوضاع، وعرف مجموعة من التحولات حسب تطور هذه الشخصية في المشهد الدرامي من جهة، وحسب تعدد الحالات النفسية المكثفة التي تواجهها هذه المرأة في محيطها الاجتماعي والأسري، ولأن عملية الإلقاء عرفت هي الأخرى الكثير من التحولات من الهدوء إلى الصراخ، ومن الاستسلام إلى التمرد، ومن التمرد إلى العويل، كل هذا تطلب من الممثلة جهدا قويا، فكان لتوظيف المؤترات الصوتية والضوئية والملحقات دورها البارز في تعدد الرؤى وتنوعها وتطويع النص بما يتلاءم والتوظيفات التقنية، وقد زاد من متعة العرض التقسيم الموسيقي وأداؤه الذي كان له الأثر الإيجابي في مساءلة واقع هذه المرأة وتأجيج صراعاتها المتعددة، خصوصا وأن الغناء والأداء كان يحكمه هو الآخر التعدد والتنوع بين الحنين والأنين، بين البوح والاعتراف، لذلك تعددت المقامات واختلفت الأنات المأساوية الحزينة بشكل جمالي وفي سياق فني بديع. لذلك استطاع هذا العرض عبر مسيرته أن يحقق تألقا وتتويجا في العديد من الملتقيات كان آخرها الفوز بجائزة أحسن إخراج في المهرجان الدولي للمسرح الاحترافي بفاس..

Related posts

Top