درسان آخران ذكرتنا بهما انتخابات أمريكا

الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة أكدت أن الشعبوية التي جسدها ترامب طيلة ولايته المنتهية، انهزمت، وأسلوبه المتعجرف، تلقى ضربة قوية.
ورغم أن الأمر ليس مطلقا أو نهائيا، ففي كل الأحوال ترامب مثل أسلوبا مختلفا في السياسة، داخل الولايات المتحدة الأمريكية وعلى الصعيد العالمي، وهذا الأسلوب هو الذي انهزم اليوم، برغم استمرار نماذج تشبهه في أوروبا وبلدان أخرى.
لقد تابع الجميع مجريات الاقتراع الرئاسي الأمريكي بكل تفاصيله وتطوراته، ولوحظ الدور الكبير الذي لعبه ويلعبه دائما الإعلام ضمن الصراع السياسي بين المرشحين، إضافة إلى دور المال وسلطته، وضغوط رجال المال والأعمال…
ولئن كانت أدوار الإعلام والمال معروفة، وتحضر دائما بقوة في الانتخابات الأمريكية، وتتيحها المنظومة القانونية المعمول بها، كما تقبلها العقلية الأمريكية، فإن الجديد هذه المرة أبرزته لغة المرشح الجمهوري ترامب، والمعجم الخطابي المستعمل من طرفه في التصريحات والتدخلات أو تجاه المنافسين وغيرهم، وأيضا موقفه النهائي من نتيجة التصويت وامتناعه لحد الآن عن الإقرار بهزيمته أو تهنئة الفائز.
الكثيرون كانوا متأكدين من فوز ترامب، وكانوا يستندون في ذلك إلى أن الناخب الأمريكي يريد فعلا العقلية التي يمثلها المرشح الجمهوري، ويقدمون، لتعزيز توقعاتهم، كثير أدلة ومعطيات، لكن النتيجة الأخيرة جاءت صادمة، وانهزم ترامب، وقدم الناخب الأمريكي، بذلك، جوابا مختلفا، وأكد أن الشعبوية، وتهديد الخصوم ولغة الشتائم، كلها لا تعيش طويلا.
قد نجد نحن أيضا في سيرتنا الانتخابية والحزبية والسياسية نماذج تشبه أسلوب ترامب وعقليته، وإن بدرجة أقل ذكاء وحرفية ومتانة، لكنها تستلهم ذات التفكير على كل حال.
أشخاص تدفعهم مصالحهم لخوض الانتخابات مثلا، أو لولوج العمل السياسي والحزبي، أو يدفعون إلى ذلك، بطريقة أو بأخرى، ومن دون أدنى قناعة أو رؤية أو تصور أو التزام، ولا يمتلكون من كل هذا سوى الأموال وأيضا الكثير من عنف الكلام والسعي للهيمنة ونشر “تشناقت” و… الخواء.
وهذه الكائنات المعروفة عندنا، ولا شك أن كلا منا يستحضر الأسماء والوجوه والأمكنة والتجارب والسياقات، بدورها فشلت، في مراحل سياسية ومواسم انتخابية مختلفة، ووصلت سيرها الحزبية والانتخابية إلى الحائط، وأضاعت على البلاد الكثير من الوقت والفرص.
هزيمة ترامب حاليا تزيد في التأكيد على أن طريق الشعبوية والديماغوجية الفردانية، وبناء التصورات على مقاس أشخاص يقحمون في العمل الانتخابي بلا أي كفاءة أو مصداقية أو التزامات أو وضوح نظر، كل هذا لا يقود سوى إلى “الحيط” و… الهزيمة، وتضييع الوقت.
من جهة أخرى، لقد أتاحت المتابعات الإعلامية المكثفة للانتخابات الأمريكية للجميع الاطلاع على منظومة القوانين الانتخابية المعمول بها هناك، وحجم تعقيدات النظام الانتخابي وطرق التصويت وأشكال احتساب الأصوات، وكل هذا يبين أن الأنظمة الانتخابية، بشكل عام، هي مختلفة ومتنوعة، وتتصل بالتجارب المحلية ومعطيات كل مجتمع، وتتم صياغتها بحسب الحاجيات الديمقراطية لكل بلد.
ونفسه النظام الانتخابي الأمريكي كان قد جرى تعديله أكثر من مرة، وذلك بغاية تحقيق مطالب أو تجاوز اختلالات برزت داخل المجتمع الأمريكي، ومع ذلك لا زال هناك من يوجه انتقادات لهذه المنظومة القانونية ويطالب بتعديلات فيها، أي أن مراجعة القوانين الانتخابية يمكن أن تتم دائما، ومتى فرضت ذلك حاجة مجتمعية وديمقراطية معبر عنها، وتهدف إلى ترسيخ الممارسة الديمقراطية وتقوية المشاركة الشعبية وتمتين التمثيلية وتعزيز المصداقية  بشكل عام على مستوى المسلسل الانتخابي والديمقراطي برمته.
وهنا أيضا، من الضروري، في حالتنا المغربية عدم اعتبار المقتضيات القانونية والإجراءات التنظيمية ذات الصِّلة بالعمليات الانتخابية مسألة مقدسة لا يجوز الاقتراب منها أو مراجعتها أو تغييرها، وفِي نفس الوقت لا يجب ابتذال ذلك، وجعلها مدخلا فاضحا لأي إبعاد أو تحقيق حساب ذاتي وظرفي.
في نهاية الأمر، الانتخابات يجب أن تنتج لنا هيئات تمثيلية ذات مصداقية وكفاءة، وتعكس تمثيلية حقيقية وإرادة شعبية ومجتمعية واضحة، وأن تفضي، بناء على نتائجها، إلى تشكيل مؤسسات تنفيذية منسجمة وقوية وذات مصداقية وكفاءة لخدمة بلادنا وشعبنا.
هذا هو الهدف المركزي، ومن أجله يجب الاتفاق بين المكونات السياسية على المنظومة القانونية والتنظيمية التي تستطيع تحقيقه.
وليست هناك وصفة جاهزة على هذا المستوى، يمكننا استيرادها من أي بلد لتطبيقها كاملة على تجربتنا الانتخابية المغربية، وإنما من الضروري الاستفادة من مختلف التجارب الكونية، والإنصات لتطلعات شعبنا، واستحضار معطيات واقعنا الوطني وممارستنا السياسية والحزبية والانتخابية والمؤسساتية، وتبعا لذلك العمل على صياغة قوانين صالحة لنا، ومن شأنها تطوير سيرتنا الديمقراطية، وتعزيز استقرار مؤسساتنا.
القطع مع الشعبوية والخواء السياسي ثم تطوير قوانيننا الانتخابية بحسب حاجياتنا الوطنية وأهدافنا الديمقراطية، هما درسان آخران سمحت الانتخابات الأمريكية الأخيرة باستحضارهما والتفكير فيهما.

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top