سلام عليك يوم تبْعث قصا إلى روح القاص محمد الفشتالي

> بقلم: محمد شهيد
أيها الصديق الودود
صباح الخلود المستعصي على سلطة الموت.
كالصاعقة داهمنا نبأ رحيلك عن الدنيا الزائلة، زوبعنا سفرك المبكر خارج أسوار الوجود إلى منفاك الأخير حيث تبزغ أقمار الأسلاف الأصفياء والقديسين والصالحين فقط، هول الصدمة بفقدانك كان مفجعا ومخلفا مساحة شاسعة من الصمت والفراغ في مشهدنا القصصي الجدير واللائق بأمثالك الرائعين.. أعرف أنك لم تكن من المتشبثين بأي من الأوهام التافهة التي تسيء لرسالة الإبداع وتزيحها عن مجراها الطبيعي ومسارها الإنساني القويم. خيرا فعلت إرادة الحياة حين لفظتك خارج أعطابها المزمنة كي تستريح قليلا من بؤسها وقسوتها وهزائمها الموجعة.. فعمرك وإن كان طويلا أكثر مما ينبغي في الحياة التي لم نكن نتصور ونحن صغارا أنها عنيفة وفظيعة إلى هذا الحد، لن يضيف لك إلا المزيد من الألم والإحساس بالإحباط في واقع أجوف لا يستحق أن نكون مبدعيه الغير مرغوب في وجودهم وفي ما يفقهون وما يتطلعون إليه.. لقد ساد الجهل وشلت إرادة القراءة ونضبت منابع الوعي والمعرفة وكاد نبض الأدب والفن أن يتوقف عن الخفقان، وأوشك الزمن أن يخرس صوت الكلمة بصخب أعدائها اللدودين، ولم تعد خيبة الوقت تمنح المجد سوى للقتلة والأوغاد الذين يخلطون الحق بالباطل.. فالأيام وإن أجلتك أيها العزيز المفتقد لن تفضي بك إلا إلى مهاوي التيه في غربة الكتابة وجحيمها الحارق.. آه لكم أحسسنا يا محمد بالاغتراب في وطن لا نملك منه سوى السراب ولكم شربنا علقم الجور وطعم الاضطهاد في عالم مقنع تسكنه الأشباح وتعبث به الأرواح المدنسة بكل ما تملك من بأس وكيد رجيـم، لكن كن مطمئنا فنور الكلمة أيها الوفي لا يأفل فور رحيل كتابه، فأنت حقا من يؤبننا وليس العكس كما نتوهم رغم أننا فقدنا قاصا مبدعا كنسته الريح بعيدا وساقته العاصفة خارج شواطئ اللغة وبحار الأدب المحفوفة بأسماك القرش المفترسة لفعل الكتابة وكبرياء نبوتها المنبوذة. انصرفت لعزلتك الأخرى تاركا “قطار المدينة” على سكة محطمة، عانيت وكابدت أتعاب التجربة بكل تكاليفها الباهظة بصبر جميل، فما أبهاك وأوفاك لفن القصة القصيرة التي التزمت بعهدك شغوفا بفتنتها كشغف ناسك يتلو أذكاره في دير مهجور.
 اعتذاري لك عن “ذاكرة الأسامي” التي لم تتح لي الفرصة بعد للاطلاع على مجريات أحداثها وطبيعة شخوصها ودلالات قيمها المنشودة، وأعلن لك يا صاحبي وأنت تعبر أميالا في الغياب والنسيان أننا في واقع الأمر لا نكتب إلا لأنفسنا أو لبعضنا، وأحار دائما ويُربكني السؤال عما إذا كانت الكتابة تغير مسار البشرية المختل قبل أن تغير القبائل والعشائر والطوائف المتنازعة ما بأنفسها؟! إن الكتابة وكما تعلم في جرأتها وحدود أغوارها القصوى ظلت منذ البدء السحيق مجالا للسخرية من كل مظاهر الفساد والاستبداد والزيف الاجتماعي ولا تزال تصارع دوما وعلى مر الأحقاب لإضاءة الجانب المظلم في الإنسان، فمن هذا المنطلق الأسمى جربت قلقها ودهشتها في اللحظة ذاتها. فالمجد لك يا محمد وأنت تلج معراج فجرك الجديد وتتخطى أكاذيب الجغرافيا ومكر التاريخ لتحيا كينونتك الحقيقية في تخوم سكينة أبدية لا حصر لها، حيث لا يتطلب الأمر أي إجهاد فكري أو جسدي على الإطلاق. كتبت لسطوة الجمال ضدا على سائر القيم المنحطة والمعتقدات السخيفة، أبدعت الحياة قبل أن تترهل فيك كل مكامنها النابضة وسكتت يدك عن سحر الكلام المر لكن فعل متخيلك القصصي واختياراتك الجمالية لا يعرفان الطريق إلى الفناء وحضور طيفك الحميم يظل بيننا ثانية ومن جديد، لقد غادرتنا وكنت شاهدا على عتمة الاضمحلال العاطفي وأزمة الانهيار الأخلاقي وسقوط العالم في مستنقع اللعنات.
لك رحمة الله الواسعة بكل ألطاف السماء البهية وسلام عليك يوم تُبعث قصّا.
هامش:
ألقيت هذه الشهادة في الحفل التأبيني الذي نظمه اتحاد كتاب المغرب فرع تازة يوم 12 فبراير 2016 في الذكرى الأربعينية لرحيل القاص محمد الفشتالي

Related posts

Top