يغلب ظني، أن القصيدة المغربية المعاصرة خرجت منهكة الصوت والتشكيل الجمالي من فترات الستينيات والسبعينيات من القرن السالف، نظرا للإرغامات الاجتماعية والاديولوجية التي كانت تجذب إليها كل شيء وتقولبه وفق مقاسها. وانطلقت هذه القصيدة مع الثمانينيات باحثة كتجارب ورؤى عن صوتها الشعري الخاص، ضمن رحابة إنسانية وثقافية، تعمق المفاهيم ومفردات الحياة. فكان أن فتحت نوافذ واجترحت ممكنات لغوية وجمالية عديدة. وبالتالي فالنص الشعري المعاصر خلق مساحات مستحدثة في القول والنظر دفعت القصيدة العربية ومنها المغربية إلى تمثيل تقنيات جديدة، وفق بلاغات مغايرة متخففة من الحمولات الثابتة والجاثمة، باستلهام تقنيات عديدة في إطار تطور النوع؛ وانفتاحه على حقول معرفية وإبداعية أخرى. وهو ما دفع إلى إعادة النظر في مقولتي الشكل والمضمون. وكذا التراجع عن قوانين نقاء النوع واستلهام التراث بإعادة تكوينه في انفتاح على تبدلات العصر والثقافات الإنسانية. نستحضر هنا الملمح الأتوبيوغرافي في الشعر المغربي المعاصر الذي غدا زاخرا بأنفاس عديدة ( سيرذاتي وسردي ، درامي ..) .
ويمكن أن نستحضر بعض المجاميع الشعرية التي احتفت بدفء المكان وامتداداته أو بالشخوص المذوتة والإعلاء من شأن التفاصيل . نذكر على سبيل التمثيل هنا ديوان « الهجرة إلى المدن السفلى « لعبد الله راجع ، و»حياة صغيرة « لحسن نجمي ، و» المكان الوثني « لمحمد بنيس ..لكن السؤال الذي يطرح هنا : كيف تقول الذات سيرتها الأولى؟ وبأي بلاغة ؟
غير خاف أن الممكنات الجمالية والتخييلية تتخذ لمسات خاصة تبئر أساسيات الذات كالذاكرة والرغبة والحلم.. ومحاولة سرد سيرة ذاتية ، عبرتحقق شعري، دون وهم المطابقة. وهنا لا بد من الوعي بالتمييزات أو تبادل الاشتغال بين العناصر الفارقة بين الشعر والسرد.
من بين هذه العناصر الهامة في الملمح الأتوبيوغرافي: المكان أو شعرية المكان . فهذا الأخير يدرك من خلال تلك العمومية التي تعتبره كأنماط وهندسة. وأن هذه الهندسة كملامح مؤكدة له تسجل في التاريخ والثقافة، باعتبارها ملتصقة بالأحداث والشخصيات. وهكذا فكلمات في شكلها الثنائي، مثل: أسفل ـ أعلى، يمين ـ يسار ، حد ـ اتساع ، نزول ـ هبوط…تدخل ضمن نمط العيش لبشر رقعة ما. كما أن الإنسان بحمولته المعرفية يتداخل مع المكان كمحمول في موضوعه اليومي . ف «المكان حين يغتصب أو يسلب يتحول إلى قضية « ، ويعني ذلك د وس كرامة الإنسان وفصله عن جذوره، وميراثه . وهو نفسه ما يقوم به المغتصب والمستلب . من هنا يبدو بشكل عام ، أن المكان ليس حدودا وقوائم جغرافية فقط ، بل مسألة تثير الإحساس بالمواطنة ، وإحساسا آخر بالزمن والمحلية « حتى لتحسبنه الكيان الذي لا يحدث شيء بدونه «.
أما في ما يخص المكان على المستوى الإبداعي، فإنه يصبح ذا قيم جمالية وفكرية. بمعنى آخر وأوضح إنه مكان موظف وفق منظور ما. وبذلك يدخل المكان حدود الافتراض والتخييل، منتقلا من طوبوغرافية واقعية إلى أخرى تخييلية. وغالبا ما تشدنا القطعة الأدبية بأسماء أمكنتها وإشاراتها إلى أمكنة محددة. الشيء الذي يحفز على التساؤل: هل المبدع يتعامل مع المكان كمكان واقعي أو متخيل؟ فالإجابة قد تجسد الإشكال المنهجي في نوعية تقديم المكان ( واقعي ، رمزي ، متخيل…).
لا يمكن هنا فصل الذات عن المكان، باعتبارها ( أي الذات ) تحمل حالات من العمق؛ موازية تماما لاتساع المكان، فبقدر ما العالم كبير ومتسع، فالداخل يعكس ذلك عبر»طبقات» من الإحساس. وهكذا، فالتعامل مع أصناف الأمكنة، يولد قيما رمزية مرتبطة بمناظر تلك الأمكنة، انطلاقا من الغرفة إلى الخلاء. الشيء الذي يولد تقاطبات وتعارضات؛ ليس فقط على مستوى مظاهر الأمكنة كاختلاف هندسي أو معماري. ولكن أيضا على مستوى مشاعر الشخصيات القاطنة تلك الأمكنة، فيبدو المكان امتدادا طبيعيا للشخصية، كما تبدو حركات الشخصية مرتبطة ومتداخلة بالمكان. وقد مثل هذا التوجه في إحدى جوانبه غاستون باشلار، حينما قام في « شعرية المكان « بخلق تناظر وتقطيع في آن بين أشكال الأمكنة التي يعيش الإنسان فيها وبها .
ما نريد أن ننتهي له من هذا البسط الموجز هو الوقوف حول جوانب القطعة الإبداعية والتي يركز البعض عليها كبنية مغلقة، حادا من امتداداتها الطبيعية. ولهذا فحين يجسد المكان نفسه في اللغة عبر مموقعات كلامية، نجد من يعتبر المكان خاضعا للنص كمعجم وتركيب.. فإذا كان المكان يطرح نفسه كامتداد أو كسلسلة؛ فإن اللغة بما تتيحه من اطراد وتسلسل تمنح إمكانية الإمساك بالفضاء عبر لحظات من المتابعة، ضمن متواليات من المفردات والعبارات اللغوية.
واضح، أن اللغة تمتلك عدة وسائل، بواسطتها تعكس الأنساق المعرفية التي يشتغل الذهن البشري في حدودها.. فالمكان ليس مقسما أو مؤطرا؛ وما يجعله قابلا للامساك هو مجموعة من البديهيات تؤطر بصرنا ونظرنا. وهذه البديهيات تكون عبارة عن عبارات موصوفة بسمات المكان.
هناك، إذن، مجموعة من المعلومات حول الفضاء ترمزها اللغة؛ ويكون المعجم هو الكفيل بتزويدنا بمعاني تشدنا لأصول المكان المادية.
> بقلم: عبد الغني فوزي