تراجعت وتيرة إنتاج الأغنية التي تدخل في خانة فن الراب بساحتنا الفنية، خلال السنوات العشر الأخيرة، كما أن عملية ترويج وإذاعة هذا النوع من الفنون الغنائية قد تقلصت إلى حدودها الدنيا، حتى المهرجانات التي كانت تقام لعرض هذا الإنتاج صارت ضئيلة جدا، تكاد لا تذكر.
الراب فن دخيل على ثقافتنا، مع ذلك كان قد احتل موقعا بارزا في ساحتنا الفنية خلال فترة معينة من تاريخنا المعاصر، بالأخص في بداية الألفية الثالثة، حيث تناسلت الفرق التي تمارس هذا الفن إلى حد ملفت للنظر.
ومما شجع على ظهور هذه الفرق الرابية – نسبة إلى الراب- أن هذا الفن لا يتطلب إمكانيات كبيرة، كما أنه غير مشروط بالتوفر على مؤهلات خاصة، يكفي أن يكون للفنان قدرة على الاستظهار والحفظ.
إنه فن يعتمد بالأساس على الإلقاء، ليس مطلوبا من ممارس هذا الفن أن يكون له صوت جميل، بقدر ما هو مندور لأن يلقي كلاما على عواهنه، إذا صح التعبير.
وقد رأينا كيف أن هناك أصوات خشنة، مع ذلك استطاعت أن تستقطب جمهورا واسعا، وتدفعه للتفاعل معها والإصغاء إليها.
أصوات متمردة على الوضع الاجتماعي، وجدت في فن الراب أداة لتصريف تمردها، يبرز ذلك من خلال القاموس اللغوي الذي توظفه، وهو قاموس يشتمل على كلمات حادة ودارجة إلى حد الابتذال، من قبيل: برهوش، بوزبال، تبوق، خنونة، صكع.. إلى غير ذلك، كما يبرز التمرد عن طريق الحركات التي يتم القيام بها أثناء أداء هذا الفن، الذي يرتكز على الإلقاء.
أغلب ممارسي هذا الفن هم من الشباب ومن المراهقين بصفة أساسية، هناك جيل، إما أنه لم ينجح في إتمام تعليمه، وإما أنه حصل بالفعل على شهادة التخرج من هذه المؤسسة التعليمية أو تلك، ومع ذلك لم يتمكن من ولوج عالم الشغل؛ فاصطدم بالواقع، واقع غير ذلك الذي كان يحلم به، وبالتالي صار متمردا وقلقا، وهذا الوضع النفسي المهتز هو ما تعكسه أغنية الراب بالذات، ولذلك كان من الطبيعي جدا أن يجد جيل الألفية الثالثة ملاذه في هذا الفن بالذات.
كان فن الراب كذلك فرصة للعديد من أفراد هذا الجيل لكسب العيش، سيما وأنه لا يتطلب مؤهلات خاصة، ليس مفروضا في ممارسي هذا الفن أن تكون لديهم موهبة في الغناء.
حتى الكلمات التي كانوا يؤدونها، لم يكونوا يجدون صعوبة في الحصول عليها، وقد رأينا كيف أن العديد منهم تطوع من تلقاء ذاته لتأليف أغانيه.
وما يثير الانتباه في أغلب القصائد الغنائية لفن الراب، أنها مبنية في قالب قصصي، ومعبرة عن الذات في علاقة بمحيطها الضيق. ما يهم ممارس فن الراب هو الثورة على واقعه والتعبير عن احتجاجه على هذا الواقع بوسائله الذاتية، بكل وسائله الذاتية: الصوت، الأطراف، الجسد، اللباس كذلك، إلى غيره من الوسائل الذاتية المتاحة له.
عادة ما يكون فنانو الراب بلباس خاص، أغلبهم يضعون قبعات، لكن بشكل مقلوب، وفي هذا تلميح إلى أن الوضع الاجتماعي غير سوي:
السروال عادة ما يكون مهلهلا ومسدولا نحو الأسفل، وفي ذلك تلميح أيضا إلى أن تدبير الشأن العام لا يتم بالحزم والصرامة المطلوبتين..
حتى الأسماء والألقاب التي يحملها هؤلاء الفنانون، عادة ما تكون شاذة، بمعنى أنها هي الأخرى تعبر عن تمرد على واقع غير مرغوب فيه، أسماء من قبيل: الخاسر -الذي ليس سوى الاسم الآخر لتوفيق حازب- والحاقد – اسمه الحقيقي معاذ بلغوات- إلى غير ذلك من الأسماء التي لها دلالة على وضع معين.
لقد وجد هذا النوع من الغناء تربة صالحة خلال فترة معينة من تاريخنا الفني – بداية القرن الحادي والعشرين على وجه التحديد- ظهور إذاعات خاصة، بالأخص إذاعة هيت راديو، التي كرست خريطة برامجها لترويج هذا الفن والتعريف بممارسيه وفتح قناة التواصل بينهم وبين الجمهور، وبالتالي المساهمة في تكريس ذوق فني يتجاوب مع هذا الفن بالذات، سيما وأنه يعد دخيلا على ثقافتنا.
كما أن بعض المؤسسات الوطنية وحتى الأجنبية -الأمريكية بصفة خاصة- كان لها إسهام في شد عضد كل من يمارس فن الراب.
وكان من الطبيعي جدا، أن نلاحظ فورة كبيرة في هذا المجال الفني:
فرق عديدة، مهرجانات خاصة، برامج إذاعية وتلفزية، فيديوهات، ألبومات، حوارات، مقالات صحافية متابعة لأنشطة هؤلاء الفنانين، القليل من هذه المقالات ما كان يعبر عن معارضته لفن الراب، باعتباره فنا دخيلا، وبالنظر كذلك إلى أن قاموسه اللغوي يشتمل على كلمات مبتذلة وخادشة للحياء.
كل هذه العوامل وغيرها، تضافرت لتجعل فن الراب يحتل موقعا بارزا في ساحتنا الغنائية.
مع ذلك، لم يحظ هذا الفن بالبحث والدراسة المطلوبتين، ولم تصدر عنه مؤلفات، كما لم يتم إعداد أنطولوجيا توثق أهم وأبرز نصوصه التي لا شك أنها تشكل وثيقة ذات أبعاد مختلفة، هذه اللامبالاة بتوثيق إنتاجاتنا الفنية، تكاد تشمل كافة التجارب؛ فعلى سبيل المثال، نجد المجموعات الغنائية الشعبية التي شكلت ظاهرة غنائية في سبعينات القرن العشرين، لم تقم بجمع وتوثيق وطبع أشعارها، فباستثناء المبادرة التي قام بها الفنان عمر السيد والتي اقتصرت على كلام الغيوان لوحده؛ فإن سائر الفرق الأخرى، لم تعر هذا الجانب ما يستحقه من أهمية، والطريف في هذا السياق أن من بين مسؤولي هذه الفرق من أجاب عن سؤال بخصوص النشر، بالقول إن كل شيء محفوظ في دماغه، وبالتالي لا داعي للطبع.
وخلال المدة الأخيرة عرف هذا الفن نوعا من التراجع، على مستوى الحضور؛ فلم نعد نلمس تلك الفورة التي ميزته خلال الفترة المشار إليها آنفا، كما أنه لم تظهر وجوه جديدة، وحتى تلك التي كرست حضورها، توارت عن الأنظار، أو على الأقل صار نشاطها محدودا جدا، كما أن المحطات الإعلامية التي كانت تشجع هذا الفن، قلصت من فترات إذاعته ونشره. ولم تظهر إنتاجات تتفاعل مع الواقع الراهن لمجتمعنا، سيما وأن كلمات فن الراب هي أساسا ترجمة لما يمور به هذا الواقع وثورة عليه.
هل يمكن القول إن هذا الفن صار متجاوزا، وأنه كان مجرد سحابة عابرة في سماء حياتنا الفنية التي لها خصوصياتها ولها مناعتها الذاتية؟
مما لا شك فيه أن أي فن لا يطور ذاته ولا يقدم إضافات جديدة، هو فن جامد، محكوم عليه بالموت، بصرف النظر عما إذا كان يعكس الهوية الخاصة لممارسه، أم يضادها ويخالفها.
وفن الراب المغربي مهدد بالزوال من مشهدنا الفني، لكنه خلف تراكما لا يستهان به من الإنتاجات ذات المستويات المتفاوتة، صارت جزء من تركة لها قيمتها، وينبغي الحفاظ عليها واتخاذها مرجعا، لم لا؟
عبد العالي بركات