في الذاكرة.. وجوه بصمت خشبات المسرح المغربي

قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..

الحلقة الثامنة

موليير المسرح المغربي الراحل أحمد الطيب العلج

أحمد الطيب العلج من مواليد 9 شتنبر 1928، في مدينة فاس وتوفي في 1 دجنبر 2012 في مدينة الرباط، عن سن ناهزت 84 سنة. أسهم في التعريف بالمسرح المغربي وأضفى عليه طابع العالمية، بهويته المغربية وخصوصية الشعبية التراثية. وفي هذا السياق يؤكد الراحل بقوله المنشور في صحيفة (أنوال الثقافي ع 34 في/ 17/01/1987): «إنني بقيت مخلصا لتوخي الديباجة، لأنني مؤمن بأن الالتزام في المسرح، ليس شعارا يرفع على أفواه الممثلين، وإنما هو حالة وحدث وأشخاص لا تلوح بشعار ولكن توحي به».
تعلم حرفة النجارة على يد أحد «المعلمين» ليصبح بدوره «معلما» وسنه لا يتجاوز 18 سنة، لكنه تعلم القراءة والكتابة فيما بعد، كان مولعا بالحكي وحفظ المرويات الشفهية، لم يتتلمذ على يد أي مسرحي، ولكنه نهل من الحلقة ومرويات الجدة وتربى بين مدينتين عريقتين هما فاس ومراكش. اشتغل ممثلا وموظفا في وزارة الأنباء، كما عمل رئيسا لمصلحة الفنون الشعبية في مسرح محمد الخامس في الرباط، وشارك سنة 1960 في تدريب في مسرح الأمم في باريس. انضم إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1986. وأحرز سنة 1973 جائزة المغرب في الآداب، كما نال وسام الاستحقاق الفكري السوري سنة 1975.
يعد أحمد الطيب العلج، أو كما يروق للبعض تسميته “موليير المغرب”، ظاهرة المسرح المغربي بامتياز، فقد اجتمع فيه الشاعر والكاتب والزجال والممثل. فنان عصامي لم يسبق له أن ولج التعليم الرسمي، ولكنه فطن أدبياته من خلال الزمن، رحل وترك العديد من الأعمال المسرحية والتراثية، التي عايشها الأجداد وسار على دربها الأحفاد، كما قال ذات يوم «خليها بعزها»، وكما قال عنه عبد الحق الزروالي يوما: «يعرف كيف يرقى بالدارجة المغربية، إلى حد أن كل جملة يقولها هي بمثابة حكمة في حد ذاتها».
تحدث عنه يوما صديقه الراحل الطيب الصديقي رحمه الله عنه قائلا: «تركنا يتامى في المسرح المغربي»، وهو لعمري، تعبير ينم عن قيمة هذا العَلم. إذ ليس بالصدفة أن يكون لهما الاسم نفسه وتقريبا المسار والهم نفسيهما، الصديقي تعلم من الطيب العلج حب المسرح وحب الارتجال والتشخيص والابداع فوق الركح.
الطيب العلج، بحبه وولعه في المسرح علم أجيالا وترك ذاكرة مسرحية ليست بالهينة، لأنه نذر حياته للفن والثقافة بصفة عامة والمسرح المغربي بصفة خاصة، مستلهما مواضيعه من مكونات التراث الشعبي بمختلف أنماطه (الحلقة، الملحون، الحكاية، الأمثال، الحكم، الألغاز…).
اقتبس وألف أحمد العلج وترجم العديد من الأعمال والنصوص المسرحية، أبرزها: دعاء للقدس: مسرحية مصطفى القباج وأحمد الطيب العلج، الرباط، 1980، بناء الوطن: مسرحية، الرباط، مسرح محمد الخامس، 1988، السعد: مسرحية، الرباط، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 1986، جحا وشجرة التفاح: مسرحية، طنجة، منشورات شراع، سلسلة إبداع، حليب الضياف 1928، ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ، ومن مؤلفاته بالعامّية المغربية: عزيزي أنا، النفخة، طالب راغب، الشهيد… كما أثرى البرامج الإذاعية بالعشرات من التمثيليات والمسلسلات التي كانت تلقى إقبالا كبيرا من قبل مستمعي الإذاعة، كما تم إطلاق اسمه على “أستوديو 5” في الإذاعة المغربية.
ساهم الراحل أحمد الطيب العلج في إخراج الأغنية المغربية من ضيق المكان إلى رحابة العالمية، بكتابته لخالدات رائعة مازالت موشومة في الذاكرة المغربية، يأخذنا الحنين دائما لها بعمق وصدق كلماتها وأصالتها المغربية الخالصة، نحو: “أنا مخاصمك خليني”، “أجي نتسالموا”، “ما أنا إلا بشر”، “غاب علي لهلال”، “ياداك الإنسان”، “أمري الله”، “خويي”، “يا أهلي يا عشراني”، “ناسياك”، “أواه أواه”، “صاحب الشفاعة”، “علاش يا عيوني”، “علاش يا غزالي”، “عباد الله فيدوني”، “ديني معاك”، “جاري يا جاري”، والعديد من الأغاني التي تناهز أكثر من مئة أغنية وقر بها قلوب محبيه دون استئذان، ناهيك عن أغاني روائعه المسرحية.

Related posts

Top