لماذا لا يحبون الحركات النسوية؟

في إطار ما يعرفه المغرب من حركية بعد خطاب العرش الماضي، والحديث عن تعديلات مرتقبة لمدونة الأسرة، لا يمكن نفي الأدوار المهمة التي تقوم بها الحركات النسوية في سبيل تمكين المرأة من حقوقها، والنضال من أجل اكتساب أخرى، والدفع باتجاه مجتمع حديث يحفظ للمرأة مكانة مناسبة على مستوى الواقع عوض الشعارات الرنانة والواقع المرير.

لكن حركات الإسلام السياسي تكن كرها دفينا للحركات النسوية، متهمة إياها بأنها جمعيات ذات تمويل أجنبي، وبالتالي فهي ناطقة باسم الأجندات الأجنبية، بل يعتقد كثير من الإسلاميين أن هذه الحركات تهدم أسس الشريعة وتنسفها من أساسها.

لا زلت أذكر كيف كنا نشحن ضد امرأة باحثة وأكاديمية في قيمة وقدر الأستاذة فاطمة المرنيسي، لم نكن من شدة الشحن نفرق بينها وبين إبليس، نراها داعية للفجور والانحلال وضد كل قيم الخير والصلاح، كل هذا دون أن نقرأ ولو حرفا واحدا مما كتبته المرحومة وسطرته في كتبها، كم اندهشت يوم عدت لكتاباتها أقرؤها بكل موضوعية، فأجد نفسي أتقاطع معها في كثير من تحليلها ورصدها، ومحاولاتها لنقد التراث الديني حول المرأة، والعودة للاستشهاد بالعصور المزدهرة خلال القرون الأولى للإسلام، كثير مما كانت تطرحه ويواجه بحملات من التكفير والتجريح يقول به كثير من الإسلاميين اليوم، العقل السلفي فقط من لا زال يحافظ على هذه المواقف المتشنجة، يعلق محمد الفزازي على موت المرحومة فيقول: “لن أدعو للكاتبة الراحلة، فاطمة المرنيسي، لا بالجنة ولا بجهنم، لأنها كانت تقول إن الله ظالم… وعن آيته الكريمة: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين.) إنها قسمة جائرة، إذن فالله جائر سبحانه عز وجل. إذا كانت تابت وماتت على ذمة الإسلام وهي تائبة من أباطيلها التي كتبت، وقضت حياتها كلها وهي تدافع عنها وهي باطلة، فسأترحم عليها في السجود”.

مثل هذا الشحن وأكثر منه، كان يطال أيقونة العمل النسوي المرحومة عائشة الشنا، اتهامات لها بالجملة بالتشجيع على الفساد وإشاعة الفاحشة، لا يدرك هؤلاء جميعا ما كانت تبذله هذه المرأة من جهود لرعاية النساء المتخلى عنهم، والأطفال دون مأوى، ما كانت تقدمه هذه المرأة ومثيلاتها من خدمات للمجتمع أفيد وأنفع من صلاة كثير من المصلين وصيامهم.

هذه الحركات لا تقل وطنية عن باقي مكونات المجتمع، بل لربما تكون أكثر وطنية من عدد من المنتسبين للإسلام السياسي، الذين لم يكونوا يؤمنون بالوطن ولا حدوده ولا قوانينه!

أعتقد أنه من الواجب تثمين الدور الكبير الذي تلعبه الحركات النسائية في سبيل الحد من الظلم والاستغلال الواقع على المرأة، أكان في جانبه المادي أو المعنوي، وسواء تعلق باستغلال تأويل خاص للدين، أو استغلال رأسمالي يسعى إلى ابتذال المرأة كسلعة في سوق الإنتاج الاقتصادي، الذي لا يفهم إلا لغة الأرقام، ولا تحضر فيه القيم الإنسانية.

في عالم اليوم، أصبح تسليع كل شيء وتنميط كل شيء هدفا أساسا لرؤوس الأموال الساعية إلى مراكمة المزيد من الأرباح، وهي في تضاعيف ذلك تستخدم الجسد الأنثوي كأداة مثالية لتحقيق الربح، في ضرب صارخ للقيم الدينية والإنسانية عرض الحائط.

ينبغي، في موضوع خطير كهذا، استحضار المقاصد العامة للدين والقيم الكونية والإنسانية، واستلهام مضامينها الحكيمة من أجل إيجاد منطقة وسطى، تضمن حق المرأة ومتطلباتها، وتنأى بها عن أي تسيب لا يخدم المجتمع، ويلقي به في براثن الانحلال الخلقي والمجتمعي.

لربما تكون خطة إدماج المرأة في التنمية من أكثر المحطات التي كشفت حجم الاستقطاب الإيديولوجي في المغرب بين الإسلاميين والأحزاب اليسارية، وكذلك الجمعيات النسوية، استعرض خلالها كل فريق عضلاته الشعبية في المسيرات الحاشدة التي عرفتها كل من الدار البيضاء الرافضة للخطة، ومسيرة الرباط التي كانت مؤيدة لها.

لقد بدا واضحا أن الرافضين للخطة أكثر عددا وتنظيما، الأمر الذي استثمره الإسلاميون لتبرير رفضهم لها، وكذا اعتبارها إملاء غربيا صرفا لا يتماشى والهوية المغربية المحافظة.

المثير في الموضوع أن عددا من الأحزاب التي توصف بأنها إدارية لم تنخرط في حملة التأييد، بل وعارضتها أيضا كما صرح الأستاذ سعيد السعدي وزير التنمية الاجتماعية والتضامن السابق في ندوة نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.

ما من شك أن خطة إدماج المرأة في التنمية جاءت بالكثير من المقتضيات التي لا يمكن لعاقل أن ينكرها، وكانت ستمثل قفزة نوعية في سبيل ترسيخ حقوق المرأة، والدفع بها في سوق الشغل والإنتاج، وبناء مجتمع أفضل.

 يقول الإسلاميون بأن الكثير من نصوصها مخالفة للنصوص الشرعية، ترى هل كان هذا مبررا لرفضها جملة وتفصيلا؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف وافق الجميع على مدونة الأسرة مع أنها تضمنت جزء كبيرا من مطالب الحركة النسوية؟

أعتقد أن على الإسلاميين أن يغيروا الطريقة التي يمارسون بها الاجتهاد الفقهي، والأسلوب الذي يطورون به نظرتهم للموضوعات المستجدة، في العادة ينتظرون ضغط الواقع للقيام بإصلاحات فكرية عميقة، لقد ولى هذا الزمن! ضرر هذا الأسلوب أكبر من نفعه، إذ يكون اجتهادا غير راسخ وقابلا للتخلي عنه في أية لحظة.

 لكن الأكثر ضررا، أنهم باجتهاداتهم التي يفرضها الواقع السياسي عليهم، يقعون في حرج مع قواعدهم الفكرية، التي لا تطور – في الغالب – نظرتها التقليدية تجاه الموضوعات الأساسية.

ينبغي أن يعي الإسلاميون أن الاجتهاد في الفقه من أجل صياغة فقهية مناسبة للواقع المعاصر، عوض الجمود على التراث الفقهي الذي كان مصمما لواقعه حصرا، ضرورة وجودية لا علاقة لها بأي ضغط أو إكراه، وأن التخلي عن التصور التراثي للمرأة وعلاقتها بالمجتمع، وبقرارها على نفسها ضرورة أساسية في واقع لا يسعف في تطبيق التصور التراثي إطلاقا.

يكاد الفقهاء والسلفيون اليوم يعتبرون أن زواج الفتيات اللواتي زوجن أنفسهن دون أولياء أمورهن زواج باطل ومرفوض شرعا، ولا ينظرون لذلك العقد بعين الاحترام والتوقير اللازم لأية علاقة إنسانية من هذا النوع، هذا الأمر يستبطن خطورة كبيرة في سبيل المشروع المجتمعي ومستقبل الإخاء والتضامن.

قد لا يبدو مستفحلا اليوم، لكن التغاضي عن التفكير الكلاسيكي، وتركه ينمو ببطء في مدارس التعليم العتيق، والجمعيات الدينية، وخطب الجمعة، والمحاضرات الخاصة، سيؤدي إلى حالة من التوتر الحاد، بعد مدة قد تطول وقد تقصر.

الواجب هنا ملقى على عاتق المؤسسات الدينية الرسمية من جديد، ينبغي رسم خطة دينية واضحة في سبيل ترسيخ ثقافة الاجتهاد المتوافقة والعصر الحديث، وتعميمها على المدارس، وتدريس آليات الاجتهاد المعاصر، وشرح المتغيرات، وبناء مقررات دراسية توضح الفرق بين الماضي التراثي وواقعه، وحاجاتنا الفقهية المعاصرة وواقعها، من أجل مستقبل أفضل للمرأة ولنا جميعا.

بقلم: د. محمد عبد الوهاب رفيقي

Related posts

Top