ورش صحافتنا الوطنية….

بعد الإعلان عن هيكلة الحكومة الجديدة وتركيبة أغلبيتها، وبعد التعرف عما حملته هذه الهيكلة من مستجدات شملت أيضا وزارة الاتصال التي باتت تشترك تسميتها مع وزارة الثقافة، يجدر التوقف لتأمل واقع إعلامنا الوطني وما يطرح عليه اليوم من تحديات، بعضها يكتسب فعلا طبيعة وجودية ومصيرية.
صحيح، لقد تحققت خطوات مهمة على صعيد إخراج النصوص القانونية ذات الصلة بالصحفيين المهنيين والمجلس الوطني للصحافة وقانون الصحافة، والتأطير القانوني للإعلام الإلكتروني، ولكن، وبغض النظر عن كون هذا البنيان القانوني نفسه يحتاج إلى تقوية متانته وتجويد منظومته العامة انسجاما مع اشتراطات الواقع والتطلعات الديمقراطية والمهنية المتعارف عليها كونيا، فإن الواقع المهني والمجتمعي يفتح الباب على أسئلة أكثر عمقا وشمولية، وتفرض اليوم حوارا مستعجلا وجديا لصياغة أجوبة ومداخل تكون قادرة على إنقاذ صحافتنا الوطنية، مكتوبة أو إلكترونية، بالإضافة إلى تأهيل حقيقي لإعلامنا السمعي البصري، وتمكين بلادنا، بشكل عام، من الإعلام الذي تستحق.
لقد اضطرت صحف يومية وأسبوعية إلى إغلاق أبوابها، وآخرها الزميلة “التجديد”، والعناوين الأخرى تصارع يوميا وعلى مدار الساعة لكي تبقى على قيد الحياة، وإذا تم إغفال هذا الواقع، وترك لانعكاسات السوق، كما يدعي بعض قصيري النظر أو المستفيدين من الفوضى، فإنه من غير المستبعد أن تحرم بلادنا قريبا من كثير عناوين أخرى، وتتعدد جنائزنا المهنية والمجتمعية!!!
الأمر هنا لا يعني حرصا على حماية عناوين وتسميات لمجرد أنها قدمت من التاريخ، أو فقط لتبقى محنّطة أو بمثابة أثر متحفي، وهو لا يعني أيضا حماية مناصب شغل فقط، ومن ثم تفادي تشريد مئات الأسر تعتبر مهنة الصحافة مصدر عيشها، ولكن الأمر يتعلق أساسا بصيانة التعددية السياسية والإعلامية لبلادنا، وأيضا الإمساك بأحد مرتكزات البناء الديمقراطي كما في أي بلد عبر العالم.
إن كلفة إنتاج الصحف اليوم تتزايد وترتفع، توزيع الصحف في بلادنا يعاني أيضا من عديد مشاكل واختلالات، قطاع الإشهار يشهد بدوره فوضى وغياب القانون وسيادة الزبونية والعلاقات والتدخلات المختلفة، العلاقات التجارية مع الإدارات والمؤسسات العمومية تعاني كذلك من بطء كبير في الأداء، والمنظومة بكاملها يخترقها وسطاء وتعاني من سلوكات ريعية وغير قانونية، وكل هذا يجعل، بالتالي، التنافس غير متكافئ وبلا توازن أو منطق.
ثم هناك، وفضلا عن كل ما سبق، منظومة جبائية غير ملائمة وغير متناسقة ولا تستحضر طبيعة القطاع أو أهميته السياسية والديمقراطية والتثقيفية.
كل ما سبق يفرض اليوم التفكير في النموذج الاقتصادي والتمويلي والجبائي لقطاع الصحافة في بلادنا، ويحتم اهتمام الدولة وتدخلها من خلال مخطط وطني استراتيجي كبير يروم جعل القطاع يقوم على مقاولات منظمة وذات استقرار تدبيري ومالي، ومحاط بقوانين وإجراءات تنظيمية وضريبية وتعامل بنكي يراعي خصوصية القطاع وطبيعة نشاطه ومنتوجه وأثر ذلك على المجتمع والبلاد، فضلا على أهمية إحداث استنفار عام لكي تسدد إدارات الدولة كامل ما في ذمتها لهذه الصحف، وضخ إمكانيات مالية مهمة أخرى في شريان القطاع بشكل منظم ومدروس وقائم على منهجية واقعية وأهداف واضحة وقابلة للأجرأة والقياس والتقييم، ثم كذلك إحداث الانفتاح والتنظيم في قطاع الإشهار والإعلانات، وتوفير منظومة مرنة وداعمة ومشجعة في مجال التوزيع، وفِي العلاقة مع الأبناك ومع الصناديق الاجتماعية.
يعني ما سبق أن الدولة مطالبة اليوم بمخطط تنموي إستراتيجي حقيقي لتأهيل قطاع الصحافة المكتوبة، وأيضا الإلكترونية، وذلك باعتباره قطاعا اقتصاديا منتجا للقيمة المُضافة ولمناصب الشغل، ومن ضمن ركائز البناء الديمقراطي في بلادنا.
خلال الشهور الأخيرة، وطيلة السجال السياسي العمومي الذي شهدته بلادنا حول بلوكاج الحكومة، طفى على السطح كثير من عيوب ممارستنا الصحفية، وبرزت حاجتنا الملحة إلى الانكباب على القطاع برمته ومعالجة أمراضه بكثير من العمق والجدية وبعد النظر.
بعض أدعياء مهنتنا مزهوون باستفادتهم من الاختراقات العديدة للقطاع، وكدسوا كثير مداخيل في جيوبهم الذاتية من خلال الثقوب التي أحدثتها تلك الاختراقات، ولكن كل ذلك لن ينجح في إخفاء أمراض هذه المهنة، ولن ينفع البلاد ومستقبلها الديمقراطي في شيء.
مهنة الصحافة في حاجة إلى أن تمسك بمصداقيتها ومهنيتها ورصانتها، وهذا لن يتحقق سوى بالتشريعات الجيدة والذكية، وبتطبيقها على أرض الواقع، ولن يتحقق أيضا إلا بالتكوين والتكوين المستمر وتقوية المهنية واحترام أخلاقيات المهنة، وتحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للمهنيين وصيانة كرامتهم ومكانتهم الاعتبارية، ولن يتحقق ثالثا سوى بالانتصار لقيم الحرية والديمقراطية، وبوجود قضاء يمتلك المعرفة والخبرة والكفاءة والمصداقية والنزاهة، وأساسا من خلال تفادي الاختراقات وممارسات الريع و”الدوباج” لأطراف مهنية محددة ولغايات محددة…
المغرب اليوم تواجهه كثير تحديات ديمقراطية وتنموية ووطنية واستراتيجية، وشعبنا لديه تطلعات وآمال وانتظارات، وكل هذا يفرض عليه الاهتمام بصحافته الوطنية، وأن تدرجها الدولة ضمن الأولويات القطاعية الأساسية والمستعجلة، بما في ذلك أن تفكر في منظومة تأهيلها بارتباط مع تعزيز البناء الديمقراطي الداخلي، ومع نشر الثقافة والتعليم ومحاربة الأمية وتعميم القراءة، ومع الدينامية الديبلوماسية العامة للبلاد دفاعا عن قضاياها الوطنية ومصالحها الاستراتيجية وصورتها الإشعاعية العامة.
مقترحات ومطالب ناشري الصحف، مرافعات نقابة الصحافة، توصيات وخلاصات الحوار حول الإعلام، عشرات الدراسات والمخططات والبيانات التي صدرت، كل هذا يعفي المسؤولين اليوم من تكرار البدايات والتيه وسط الكلام الجديد…
التشخيص إذن معروف، والواقع يتحدث عنه الجميع، والوقت لا يرحم، والمطلوب اليوم، تبعا لذلك، هو العمل، ودعوة الأطراف المهنية ذات الصلة للحوار، ومن أجل المساهمة الجماعية الواعية في التأسيس لانطلاقة عملية حقيقية لمسلسل إنقاذ صحافتنا الوطنية والارتقاء بها.
إنه اقتراح ورش أساسي تقتضيه اليوم المهنة وتفرضه مصلحة بلادنا.

محتات الرقاص

[email protected]

Related posts

Top