تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
محمد القاسمي.. “أوقيانوس” الروح
الفنان الراحل محمد القاسمي (1942-2003) مبدع ومثقف اختار التشكيل البصري والشعري أرضا متخيلة حيثما حل وارتحل، معتبرا المنجز الفني مجازا مرسلا يوحد بين مختلف الأجناس الإبداعية ومجالا خصبا واستبطانيا لتناسل الرموز والآثار شكلا ولونا وتنظيما وتناظما. ألسنا بصدد علاقة عمودية مع الفن والفكر يتوحد في ضيافتها المرئي واللامرئي والمحسوس والمتعالي؟
ليس القاسمي فقط علامة بارزة في المشهد التشكيلي المعاصر بالمغرب، بل يعد فاتحة تجارب ما بعد الحداثة بكل مغامراتها البصرية ورؤاها النقدية: شهرزاد والحرب، أعلام منصوبة في مواجهة المحيط الأطلسي، من الصحراء إلى الأطلسيات، شراكة إبداعية مع دباغي مراكش، مشاعل تنير دروب مدينة ليموج الفرنسية، مغارة الأزمنة الآتية، ذاكرة الجسد في طريق العبيد بالبنين، إرساءات إحياء لذاكرة جون جونيه، منجزة فنية في مسرح عتيق بتركيا، إرساءات ضد الدمار برواق «المنار» بالدار البيضاء…الخ. ساهم الراحل في جعل اللوحة قصيدة بصرية، إيمانا منه بالتفاعل بين المكتوب والصوري كما تدل على ذلك لفظة الصورة في لسان العرب لابن منظور.
تميَّز الفنان القاسمي طيلة مشواره التشكيلي والأدبي بحضوره القوي والفعال في جل الملتقيات والمنتديات الثقافية والإبداعية الوطنية والعالمية، كما تشهد له على ذلك معارضه التشكيلية الكثيرة ومداخلاته الجمالية القيمة ودواوينه الشعرية والجوائز الدولية التي نالها عن جدارة واستحقاق. يعد القاسمي من الفنانين العرب القلائل الذين كانوا عرضوا مبكراً برواق فلورونس توبير في باريس ومن القلائل أيضاً الذين نشرت أعمالهم الفنية بجريدة لوموند ديبلوماتيك. كما تفرَّد بإعطائه الجسد/الجسد المسلوخ آثاراً تشكيلية أخرى، تتجلَّى في تلك العلامات والرموز المتطايرة والمتلاشية التي تغطي فضاء اللوحة، قبل أن يعود إليه بقوَّة في مرحلة موالية وبأكثر إنشائية إيروسية، إذا جاز التعبير. من ثمَّ، سيصير لـ «جسد» الفنان القاسمي هويات مختلفة: جسد الأرض، جسد المادة، جسد اللون، جسد السند، جسد الجسد كما هو جلي في تجربة «أطلسيات» أو الأجساد الأسطورية التي أنجزها سنة 1991.
عاش القاسمي مناضلا في فنه كما في حياته وظل داعية لترسيخ قيم السلم والتسامح في العالم ضد تيارات العولمة المادية الكاسحة. انتصر لكل القضايا العادلة واعتبر الفن فعل مساندة وتضامن. صرح في هذا الصدد: «الرسم طريقة لإسماع صوت المستضعفين والمقهورين وشكل من أشكال مقاومة التسلط والاستبداد». فمع مجموعة من الفنانين بجنوب فرنسا، أقام عام 1970 تظاهرات فنية في الهواء الطلق، ووضع على الشواطئ والقرى قماشات من دون إطارات، ونصب أعلاماً ملوَّنة كردِّ فعل ضِدَّ طغيان التمركز الفني في باريس. كان من السباقين في جعل محترفه منتدى مفتوحا للجمهور قصد ترسيخ ثقافة التبادل والحوار ودمقرطة الفن.
نذكر معرضه الأخير «الإبداع ضد الدمار» المستنكر لكل نزعات الحروب والإمبرياليات الجديدة كما نستحضر تجربته الرائدة مع الشاعر حسن نجمي في ديوان «الرياح البنية»، وهي تجربة نوعية تتأسس على الحوار المفتوح بين القول الشعري والفعل التشكيلي في حركة قصوى. إن جسد العمل الفني لدى القاسمي يتماهى مع جسد العالم بشكل حميمي يجعله يوازي بين الممارسة الإبداعية والممارسة الوجودية ويتخذ من عالم اللوحة «أوقيانوس» الروح بامتياز.
جدير بالذكر أنه في عهد وزير الثقافة الأسبق محمد الأشعري، نال محمد القاسمي «جائزة الاستحقاق الكبرى» عام 1999، وهي المرة الأولى في تاريخ المغرب التي تُمنح لفنان تشكيلي. احتفت به وزارة الثقافة المغربية في وقت لاحق ونظمت له عام 2002 معرضاً استيعاديّاً ضخماً في أروقة الوزارة الثلاثة في بالرباط تحت عنوان «معادلة المعنى»، وذلك عقب حصوله على الجائزة المذكورة، والمعارض والأروقة هي: معرض «زمن الرواة» بباب الرواح، معرض «السفر الإفريقي» برواق محمد الفاسي، وقد ضمَّ مجموعة من الصور الفوتوغرافية والرسوم الفحمية والتخطيطات الحبرية التي نفذها على آثار رحلة إفريقية قام بها بمناسبة حضوره لمؤتمر دولي في بنين حول الرق بدعوة من منظمة اليونسكو، ثمَّ معرض «خارج المرسم» الذي أقيم برواق باب الكبير في الأوداية.
على أثر بول كلي الذي أعلن أن الكتابة والتشكيل متجانسان ومتعالقان في الجوهر، ألف الراحل عدة كتب مرجعية: «صيف أبيض»، «كلام راحل»، «تجويفة الجسد»، «آثار وأحاديث» مع جليل بناني، «الظل المحمول» مع ألان غوريوس، مكناس المدينة التاريخية، حائك مراكش بالصويرة مع الشاعر الفرنسي جيمس ساكري (تصوير كريشيان رماد)، «حيلة الحي» مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي. كان الراحل يذكرنا دائما بقولته المتبصرة: «إنني أتكلم التشكيل بالشكل نفسه الذي أقول به إنني أتكلم اللغة الأم، كمعين وعلامة استدلال، أي بالشكل نفسه الذي أستعمل به لغات أخرى متبناة كسبيل للحب».
< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن