تعرض هذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين الراحلين بالمغرب بعض الملامح النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية. في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الرائي جبران خليل جبران: «في موت المبدعين حياتهم»؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرطو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟
محمد الدريسي.. سخرية الإنسان المعاصر
الفنان التشكيلي الطلائعي محمد الدريسي (1946-2002 ) من أبرز المبدعين التعبيريين بالمغرب، فقد تمرس على تقنيات الابداع التشكيلي بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان عام 1963، وواصل حلقات تكوينه الفني عام 1968 بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بباريس، ثمِّ بمدرسة سان خورخي للفنون الجميلة ببرشلونة عام 1970 والمدرسة العليا للفنون الجميلة والهندسة ببروكسيل قبل أن يلتحق سنة 1980 بمدرسة الفنون المرئية بنيويورك.. رسم تفاصيل ملحمته الوجودية بموضوعية تستمد مرجعياتها من ذاته الكبرى. تبدو بياناته البصرية ملحمة سيزيفية مفعمة بخصائص «الميثاق السير ذاتي» المتشاكلة مع الإيهام الملحمي التعبيري حد التراجيديا… فنان رحالة سبر أغوار تطوان (مسقط رأسه)، وباريس، وسان جورجي ببرشلونة، وبروكسيل، ونيويورك، ليكتب ما تبقى من رسالة الغفران وسقط الزند… إنه أحد رواد الواقعية التعبيرية الساخرة في التصوير الصباغي والنحت والحفر، بعد أن تم تتويج أعماله الاستثنائية ذات العمق الإنساني البليغ ضمن فعاليات المعرض الدولي الخامس للواقعية بجنوة (إيطاليا)… فهو بتعبير الأديب محمد الأشعري نموذج المبدع الاستثنائي الذي ارتضى السفر عميقا في ملامح الإنسان المغربي خاصة المرأة في أحوالها ومقاماتها… امتلك ناصية العلاج بواسطة الفن، وتفوق في رصد رؤيته للعالم على أساس اللحظة، والمشهد أو الكرنفال الوجودي… برسمه لبوليفونيا الوجوه الإنسانية خاصة الأنثوية منها، يفصح لنا عن التعددية الرمزية والواقعية للإنسان المعاصر ومدى عدميته وعبثيته إلى درجة المسخ والغثيان! وكأنه يرحل بنا إلى عوالم مودغليالي وفرانسيس بيكن، ومرحلة السيرك والآكروبات والآرلوكان في مسار بيكاسو، وعوالم جورج روو المأساوية… فنان تشبع بالذائقة الوجودية والإنسية الكونية حتى الثمالة، وتأثر بالإرهاصات الأولى للسجلات التصويرية الشعبية، وانفتح على المدارك الميتافيزيقية، منصتا لروائع فاغنر وكارل أورف… في بناءاته التكوينية، نقف عند الاحتفاء العاري بقلقه الوجودي وبوحه الكاشف والشفاف بجوهر الأشياء والكائنات، ملتزما بالمقولة الصوفية: «القلب يدرك ما لا تراه العين». إنه يرسم بالعين الداخلية ليستجلي الماورائيات واللامرئيات… ألا توجد العين في الحالة المتوحشة، كما أشار إلى ذلك أندري بروتون؟
لدى الدريسي، الفن موقف فكري ومسلك وجودي. صرح لنا ونحن نشاكس مخيلته يوم 5 فبراير 1998 (يوم افتتاح معرضه الفردي بملتقى الفنون بالدار البيضاء): «أحاول أن أكون أنا، لا نسخة مكررة ومشوهة عن الآخرين. فالفن هو القابع وراء الظاهر، في أعماق الذات الكونية. حياتي هي الفن الذي اخترته بدل أن يختارني». مضيفا: «الأسلوب التعبيري النقدي يفترض بحثا عميقا ومفصلا في معيش وصورة الجسد… إنني أعتبر الإبداع انعكاسا فرديا للجسد الإنساني، وهو معادل تشكيلي للحرية ولحركة الفكر لصياغة إيقاع الأشكال والصور المخادعة لمطلق الجسد»… هكذا، خلد الدريسي حضوره منذ سنة 1981 عبر سجلات التصوير الصباغي، والنحت، والحفر وشكل سفيرا متجولا للمغرب، خاصة في مدارات إسبانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا، مخبرا عدة مواد تشكيلية (أقلام مشمعة على الورق، فوزان وسونغين على الورق، تقنية مختلطة على الورق المعجون والخشب، صباغة زيتية على القماش، صباغة زيتية على قماش القنب، صباغة زيتية على قماش القنب المثبت على الخشب، صباغة زيتية على الخشب، أقلام مشمعة وفوزان على الورق، أقلام مشمعة وسونغين على الورق، حفر، نحت برونزي، قطع خزفية، نحت على الخشب الملون…).
الصور التي عايناها بمتحف مراكش سنة 1997 وبملتقى الفنون سنة 1998 وفي إطار آخر معرض له بقصبة الأوداية بالرباط غرائبية بامتياز! الأشكال عبارة عن هذيان بصري ينزاح عن متاهة المعايير والأساليب المسكوكة والمطروقة… يقول في هذا الباب: «إن الفن دعوة لمساءلة الذاكرة الجماعية والكشف عن نوافذها الخفية… لا فن بدون تخييل! ». نتذكر حينها قولة مارك شغال: «الفن هو حالة روحية» وقولة فان غوغ: «الفن هو الصورة العميقة للتعبير عن آلام الإنسان الرهيبة»…ألا تذكرنا لوحة «الرحيل» لبكمان الألماني برحيل الدريسي على إثر أزمة قلبية مفاجئة ألمت به بمحطة الميترو بباريس، حيث كان مقبلا على الاستفادة من دورة إبداعية بالإقامة الدولية للفنانين. بين توقف قلب بكمان بصورة مباغتة عام 1950 والأزمة القلبية للدريسي عام 2003 مسافة جمالية ووجودية في الآن ذاته، مسافة لكبرياء الجرح، وأقاصي الفتنة، وغرائبية العزلة… تمردت – بتعبير صديقك بشير القمري- على العبث المجاني في التآكل الداخلي جسدا وعقلا وسريرة وذخيرة نفسية… كتبت سيرة المطاردين للأحلام المفقودة… يقول في حقك صديقك محمد شكري: «الأساسي في عملك هو البحث عن موقع للإنسان داخل الوجود ونقد وضعيته الاجتماعية دون إثارة أو غواية أو رقابة ذاتية. فعلى غرار محمد الحمري، رسمت هوامشنا الاجتماعية، وصالحتنا مع ذاكرتنا اليومية وواقعنا الاجتماعي العام بأسلوب تعبيري يذكرنا بأعمال غويا…».
كان الراحل واعيا بأن عمل الفنان التشكيلي مرادف لعمل الكاتب، لأن همهما المشترك هو التقاط عوالم المملكة السرية للعاطفة البشرية بكل تداعياتها البصرية والوجدانية. رسم الدريسي عوض أن يكتب أو يتحدث، مدركا مع الباحث ريجيس دوبري بأن اللاوعي الذي يشتغل بالصور والتداعيات الحرة يقوم بالتبليغ، أفضل من الوعي الذي يختار الكلمات. في هذا الصدد، يقول الدريسي: «أنا رسام تعبيري أحاول الانطلاق من درجة الصفر للنظر، لكي أعبر عن البراءة الدلالية لموضوعاتي عن طريق التلميح والإيحاء. إن لوحاتي ومنحوتاتي رمزية رغم سجلاتها الواقعية». يذكرنا هذا الموت المبكر للفنانين الحقيقيين بالصورة المجسمة للمهجر والإعياء والاغتراب عما يكتنف عالمنا اليومي من قلق، واضطراب، وشرخ، وتصدع روحي في عصر الصورة الذي هيمنت فيه تقنية أصحاب الأعمال الفنية الشاحبة التي لا لون لها بتعبير الكاتب والمفكر عبد الكبير الخطيبي.
إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن