“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”.
ريغوبرتا منشو توم.. المرأة القادمة من حقول الذرة التي استحقت جائزة نوبل
ناضلت ضدّ التمييز والحرمان وساعدت على الصلح بين الأعراق
“…أمنا الأرض… امنحينا الغذاء نحن المجبولين من حبوب الذرة الصفراء والبيضاء… امنحينا السكينة والأمان لنا ولأولادنا الذين سيمشون على ترابك… امنحيهم الأمل يا قلب السماء ويا من لا نعرف غيره أبا، أنعم علينا بنورك ودفئك وامنحنا الأمل والحياة الكريمة لنا ولأبنائنا، عاقب أعداءنا وأنزل غضبك على أولئك الذين يريدون سرقة عقيدة آبائنا.. فنحن أناس فقراء وليس إلا… أناس بسطاء ندعوك بأن لا تتخلى عنا كما لا ولن نتخلى نحن عنك…”
هكذا أخذت ريغوبرتا برتاس منشو توم (ولدت في التاسع عشر من يناير 1959 بمدينة شيمل بغوتيمالا) تردّد صلاة أحد الخطباء الهنود لحظات اعتلائها منبر العروس وارتباطها بشريك حياتها ذي الأصول الهندية أنجيل فرانسيسكو كانيل عام 1995…
لا أريد أن أكون معذبة
كانت مراسيم الزواج تجري في خلوة تامة، فها هي الساعة قد قاربت الرابعة فجرا دون أن يحضر كاهن القرية إلى منزل العروس ليتلو صلاته ويبارك فتح الأبواب… وها هن السيدات والصديقات يقفن حائرات أمام ما يفعلنه بأواني الطامال الكبيرة الخمس والسبعين التي نضجت للتو وتمثل رمزا في المناسبات الهندية كونها ستُتيح لعائلة العروس أن تظفر بأسبوع طيب من الاحتفالات التقليدية مع أهالي القرية، وها هم الأجداد لم يجلسوا معا ولم يلبسوا الملابس التقليدية ولم يتكلموا عن الأيام الخوالي، كما غابت عن المنزل هدايا الجيران والأصدقاء من البطانيات وأواني الفخار التي تقدم كذلك احتفالا بميلاد طفل جديد وبمناسبة كهذه، ولم تجد العروس أحدا إلى يسارها ليرافقها (حسب تقاليد ثقافتها) إلى بيت الزوجية، فوالدها فينيستي فينشو كان قد قتل (تم قتله من طرف أفراد الجيش الإسباني 31 يناير 1980) قبل هذا التاريخ بخمسة عشر عاما رفقة ثمانية وثلاثين هنديا أثناء محاولاتهم احتلال السفارة الإسبانية، كما أن والدتها اختطفت بدورها من طرف القوات نفسها (أبريل 1989) وتعرضت للتعذيب والقتل، واختفى شقيقاها منذ زمن بعيد في الوقت الذي فضلت شقيقتها الوحيدة الانضمام إلى صفوف المحاربين والمسلحين وعمرها لم يتجاوز الرابعة عشرة، حينها فقط عادت بذاكرتها إلى الوراء قليلا لتتذّكر صورة قريتها الصغيرة (شيميل) التي شهدت مولدها واختفت من الوجود تقريبا أسوْة بالعديد من قرى المايا الأخرى التي يبلغ عددها أربعمائة قرية وزعت على طول سلسلة جبال غواتيمالا التي اختفت كذلك من الخريطة منذ مطلع الستينات، حينها نظرت إلى زوجها (انجيل كانيل) وأخذت تقول له وقد امتلأت عيناها بالدموع: “…. لا أريد أن أكون أرملة أو أمّا معذبة كما كانت والدتي.. فعندما توفيت والدتي عرفت مقدار المرآة ومقدار الألم الذي يشعر به الأولاد لفقد آبائهم وأمهاتهم، كما أن الحياة تصبح على المحك عندما يقرّر المرء أن يكون ثائرا… أنا لست ضد الزواج بقدر ما كانت فكرتي عنه تتمحور فقط في أن يكون الزوجان سعيدين مع بعضهما البعض وها أنا أجد مثل هذه السعادة الآن وأنا إلى جانبك، أريد أن أصبح أمّاً… ولا أريد أن أترك أولادي في عهدة أحد من أهالي القرية أثناء تجوالنا أو تجوالي بمفردي إذا ما فرضت وحتمت الظروف ذلك ….”.
معركة الجوع والبؤس
كانت الفتاة قد بلغت الثالثة والعشرين ربيعا عندما قرّرت الانضمام إلى المعسكر الوحدوي الذي شارك في تأسيسه والدها (فيسنتي منشو) الذي انصب هدفه على مواجهة التميّيز ومحاربة الفقر ووضع حدّ للمعاناة التي يتعرّض لها الهنود في غواتيمالا، كانت قد أعلنت الحرب على النظام الإسباني الحاكم وهي أمّية تجهل القراءة والكتابة ولم تتقن بعد اللغة الإسبانية، واستبدلت بذلك الحياة الآمنة التي تعيشها النسوة الهنديات اللواتي يقطفن القطن وحبوب الذرة والبن في مزارع الإقطاعيين الكبيرة بحياة الخطر والشقاء التي يعيشها الثوار انطلاقا من قناعتها بأن الفقر ليس مصيرها وأن الهنود ليسوا فقراء أو كسالى أو لا يحبون العمل كما يدّعي أصحاب الأراضي الأثرياء بقدر ما هم أقوياء ويتمتعون بغنى النفس ويحبون عملهم الذي يحول بينهم وبينه تلك الإجراءات الصارمة ضدهم وازدياد معاناتهم التي تجعلهم لا يحبون العمل إلا مُكرهين، ولعلّ هذا هو السبب نفسه الذي دفعها لاتخاذ قرار الانضمام إلى الثوار، وفي هذا تروي في إحدى المقابلات التي أجريت معها بعد زواجها من الهندي (إنجيل كانيل) “…. كانت الوحدة تسعدني أحيانا وتملأني بالخوف والحزن أحيانا أخرى، وتأتي لحظات قليلة يتملكني فيها الرعب بعد أن تخلفني الحياة وراءها، حينها عقدت العزم على القتال، فبهذه الطريقة سأعيش مع كثير من الناس حينها لا أكون وحيدة مع نفسي، قد أنظر حولي مرارا وتكرارا وأجد نفسي بأنني وزملائي نستيقظ في وقت مُبكر يوما بعد يوم لنعمل في حقول الأثرياء دون مقابل سوى الإهانة ومزيد من العنف والاضطهاد، حينها قرّرت ترك العمل لمحاربة هذا التمييز انطلاقا من إيماني العميق الذي كان يردع مخاوفي للمخاطر التي قد تحدق بحياتي، فالمعركة هنا ستكون معركة جوع وبؤس….”، وتضيف في معرض حديثها عن سنوات الكفاح وارتباطها بزوجها في العام 1995 “…لقد امتدت سنوات كفاحي من أجل حقوق الهنود في غواتيمالا قرابة العشر سنوات حتى قرّرت الارتباط بأحد سكانها الأصليين وهو انجيل كانيل الذي وجدته رجلا لطيفا متين البنية مُحبا ولا يملك المرء إلا أن يُحبه كذلك، وتمنيْت أن أنجب الأطفال منه ومضينا معا للوفاء بالتزامي بتحرير شعبي، وهو التزام أوفيت به مع نيلي لجائزة نوبل للسلام في العام 1992 لأكون بذلك أول امرأة لاتينية تنال الجائزة المرموقة …”.
حقل الذرة… أرضي أنا
كما تتحدّث ريغوبرتا عن سنوات طفولتها المبكرة رفقة والدها وأشقائها بالقول “….. كان والدي الذي لقّبهُ الجميع بـ “آرك آمال” (أي الشخص المقدام) يحمل جلّ صفات النُبل والكرم والتفاني والتضحية في سبيل الآخرين، يرعى أفراد مجتمعه وعائلتي ويعمل على حلّ مشاكلهم دون مقابل، كنت أرافقه على الدوام إلى حقول البن والذرة لأقطف معه الحبوب دون أن أكمل ربيعي الثاني بعدما بتُ أعرف جيدا ما يعنيه الفقر حق المعرفة، إنه الجوع المستمر الضاري الذي أنشب أظافره سريعا في شقيقي الرضيع الذي دفنه والدي في علبة من الورق المقوْى الذي منحت له من طرف أحد الهنود الرحماء، لقد توفى شقيقي الصغير نيكولاس بسبب سوء التغذية ولم تكتب له النجاة مثل كل طفل يولد في غواتيمالا وتوفي قبل أن يُدرك عامه الرابع، كما وقع شقيقي الأكبر في أحد الحقول ضحية للمبيدات التي رشّها أصحاب الأرض الأثرياء بطائراتهم الخاصة على نباتات البن الهشة دونما أي اعتبار للعاملين الذين لا يزالون يعملون في قطافها، لقد توفى (فيليبه) متأثرا بالسّم الذي يحمي بفعالية شديدة شجيرات البن من الحشرات دون إعارة أي اعتبار واهتمام للمزارعين الفقراء الذين ماتوا رفقة شقيقي، لقد كانوا يستخدموننا كالعبيد في حقولهم ويجنون بفضلنا الملايين من الأرباح، يعاملوننا معاملة لا ترقى إلى معاملة الكلاب، فبينما يرمون لهذه الأخيرة اللحم والخبز الساخن والأرز الطازج يلقون لنا بالخبز المُعفن والذرة الصفراء البالية الباردة والفاصولياء، وهي وجبة يقطع ثمنها من أجرنا اليومي، ويا لهول الكارثة إذا ما أقدم أحد الأطفال الصغار على إفساد شجيرة بن، حينها ستكون الأم مضطرة للعمل لشهر كامل لكي تفي ثمن تلك الشجرة التي أفسدت دون قصد……”.
وتضيف بالقول “….لكن وأمام كل هذا وذاك كان الإنسان في ثقافتنا هو الكون… كنا نحترم حبّة الذرة لأنها تنغمس في باطن الأرض المقدسة حيث تتضاعف وتمدّنا بالغذاء الذي نقتات عليه نحن بني البشر في العالم.. كنا نحترم حبّة الذرة التي نعتبرها حبّة مقدسة وتكتسي أهمية كبيرة بالنسبة إلينا لذلك كنا نحرص على ألا نهدر ولو حبة واحدة منها، كما كنا نقيم في القرية مهرجانا كبيرا بداية موسم الزراعة ونثر البذور في ظلّ طقوس تشهد إحراق البخور وإقامة الصلاة وإشعال الكثير من الشموع في كل بيت، كنا نتشارك جميعا ونلعب وكنا أطفالا صغارا في صورة تُعبر عن تقديرنا لحبات الذرة التي نلتقطها كلما وجدناها في دروبنا أينما حللنا وارتحلنا ونحن نردد أغنية الأرض التي تعلّمناها من أمهاتنا وجداتنا: “أيتها الأرض الأم والوطن.. هنا ترقد رفات أسلافي وفي ترابك واريت أجدادي وأحفادي وأولادي، هنا انهالت العظام على العظام، وهنا تكونت عظامي عاما بعد عام، وجيلا بعد جيل، أنت بلادي وأرضي، ارضي أنا… أنت أمي وأم أجدادي… كم أود أن أعانق جمالك وأمتع ناظري بسكينة فؤادك وأن أستمتع بالصمت معك، كم أود أن أسكّن آلامك وأبكي بدموعك عندما ترين كيف تبعثر أولادك في أنحاء العالم، كيف دفعهم اليأس للجوء إلى آماكن بعيدة من دون أصدقاء… من دون سلام… من دون أم… لقد عاشوا منبوذين بعيدا عنك…..”.
ذهب أمريكا اللاتينية
كانت ريغوبرتا تدرك رويدا رويدا أن ثمة أشياء في المجتمع ليست على ما يرام، فكيف لها أن تفسر تلك النظرة المتعالية التي يرمقها بها أصحاب الحقول الأثرياء وأولاد الإسبان البيض وهي التي تعتبر من السكان الأصليين للبلاد وتعد مواطنة من الدرجة الثالثة على أرضها وفي بلادها فيما يتربع اللادينو الأثرياء على قمة الهرم الاجتماعي ويملكون حقولا مُتعدّدة يعمل فيها الفقراء من أبناء جلدتها في ظل ظروف مأساوية لا تجاري ازدهار حقول البن (ذهب أمريكا اللاتينية كما أطلق عليه) المنقطع النظير منذ العام 1871، وفي هذا تقول “… كنت أتساءل على الدوام عمّا سيؤول إليه الحال لو ثار الهنود وانتزعوا الأرض من مالكيها الكبار، وبصفتي مرشدة دينية للأطفال كنت أرى أصحاب الأرض الأثرياء يتصرّفون مثل الآلهة ويعاملون العمال الهنود بطريقة أسوأ من معاملة الحيوانات وقطعان الماشية، كنت أنظر باستمرار إلى آليات الكبت والقصاص بشكل أدى إلى خداع أولئك الذين يتبوءون مراكز القوة وعنادهم وسعيهم إلى إفساد المجتمع وجعل الناس يعتقدون بأنهم حكّام العالم لا أولاد الأرض، حينها فقط أخذ الإيمان بضرورة تغيير هذا الواقع يتملكني، وبتُ أقنع نفسي بأنه سيكون لي إسهام كبير في إحداث مثل هذا التغيير حتى لو قدّمت نفسي للتضحية والفداء كما فعل والدي سابقا، خاصة في ظلّ استهتار الكنيسة ومساعدتها للأثرياء لا الفقراء، فطالما تحدّثت إلى الكنيسة عن الحب والحرّية التي كانت معدومة في غواتيمالا أو لم تكن من نصيبنا نحن الفقراء على الأقل، لكن الكهنة والأساقفة لم يفعلوا شيئا ولم يعيروا نداءاتنا أي اهتمام بقدر ما كانوا يساعدون في تسليم الفلاحين البسطاء الفقراء الذين لجئوا إليها للحماية من الأثرياء المجرمين، ومثل هذه الصورة لم تكن بجديدة في غواتيمالا، فعندما كان الإسبان يفرضون سيطرتهم على المنطقة كانت الكنيسة تدعم القضاء على الوثنيين لمحو آثار ماضي الهنود كافة بهدف بقاء زمام السياسة في يدها فقط….”.
لا تخلط بين السماء والأرض
كانت ريغوبرتا ترى بأن هناك اتجاهين مُتعاكسين يتنازعان الكنيسة الكاثوليكية، وفي هذا تقول “…كانت الكنيسة مُقسمة عمليا إلى قسمين، واحد للأغنياء حيث لم يكن الكهنة يرغبون بأن يزعجوا أنفسهم بالمشاكل فيه، وآخر للفقراء الذين ينضمون إلى فئاتنا وتعمد الكنيسة إلى التدخل سريعا وإيقاع العقاب باسم الدين ولصالح النبلاء والأثرياء فقط، حينها بتنا على قناعة بأن الهرمية الكنسية غالبا ما تمدّ يدها للأثرياء فقط ويصمّون آذانهم عن معاناتنا نحن الفقراء… إنهم يسمون أنفسهم بالمسيحيين لكنهم لا يستحقون هذه التسمية لأنهم يعيشون من دون همّ أو غمّ في بيوتهم الفخمة ولا يرون ما سواها، ولهذا السبب بتّ أقول للجميع إن الكنيسة في غواتيمالا مُقسّمة إلى اثنتين هما كنيسة الفقراء والتي قرّر الكثيرون فيها أن ينضموا إلى جانب الفقراء ويشاركونهم مأساتهم وآراءهم وتطلّعاتهم، وكنيسة الهرمية الكنسّية أو المؤسسية التي لا تزال عبارة عن عصبة حامية لحقوق الأثرياء والنبلاء فقط دون سواها، لكن يقيني وإيماني بالمسيحية لم يمنعني من توضيح الأمور لأفراد شعبي، فبوسعنا إقامة كنيسة شعبية تتمتع بالأصالة وتنبذ الأمية والهرمية، فنحن بمقدورنا إذا ما توحدنا أن نحدث التغيير بأنفسنا وبفعلنا وليس بفعل الآخرين، لدي ثقة ويقين كبيرين بأن الناس وحدهم هم القادرون على صياغة المجتمع من جديد، وأقول هذا رجوعا إلى المثل الذي قاله والدي لي ذات يوم دون أن يفقد إيمانه مطلقاً بالرغم من الحياة الشاقة التي عاشها: لا تخلط أبدا بين السماء والأرض…”.
لا بدّ للعالم أن يلاحظ وجودنا
وتستطرد ريغوبرتا في وصفها للأحداث المأساوية التي أودت بحياة والدها (فينستي منشو) ووالدتها (خوانا) اللذين دفعا حياتهما ثمنا للحفاظ على حقوق المستضعفين والمضطهدين ورفع المعاناة والحيف والتمييز عن الفقراء من الهنود بالقول “… في الواحد والثلاثين من يناير 1980 كانت النيران قد أتت على مقر السفارة الإسبانية وزنزانتها التي تأوي والدي وثمانية وثلاثين من رفاقه ومن أنصار القضية الوطنية الداعية إلى رفع الظلم عن الفقراء، ورغم أن السفير الإسباني قد تمكّن من النجاة بصعوبة بعد ما لحقت به إصابات خطيرة إلا أن والدي ورفاقه الثوريين سيقوا من طرف الجنود المدججين بالأسلحة وتم تعذيبهم وقتلهم سريعا واللحاق بوالدتي وقتلها كذلك بعد أشهر قليلة وإجباري على مغادرة البلاد إلى المنفى المكسيكي بعد ذلك بعام واحد فقط (1991) الذي لجأت فيه إلى تأسيس منظمة للمعارضة الغواتيمالية تحت اسم (التمثيل الاتحادي للمعارضة الغواتيمالية) التي أخذت لأجلها أجوب البلاد وأنحاء المعمورة للفت أنظار العالم إلى الوضع الخاص ببلدي الأم وإلى منحنى الإبادة الجماعية التي أخذ بتصعيدها الجنرال (افرين ريوس) الذي بدأُ يمطر البلاد بالقنابل في بلد جعل من الجريمة برنامجا حكوميا مُنظما كما وصفته منظمة العفو الدولية فيما بعد، لم أكن واثقة حينها بأنني سأعيش حتى أرى شمس النهار التالي لكنني لم أدخر وقتا في سبيل تعرّية رجالات الحكم هناك، فظهرت للمرة الأولى في منظمة الأمم المتحدة بجنيف ونيويورك مرتدية الزّي التقليدي (الهويبيل) المكوْن من قميص يدوي الصنع وتنورة طويلة تلتف حول الجسم بشكل بات مظهري مختلفا تماما ومتناقضا مع البذلات الرسمية المخططة وحقائب الوثائق الصغيرة التي تملأ المكان، وأخذ الجميع يستمع إلى مناشدتي بمنح السكان الأصليين المُعرضين لخطر الإبادة الجماعية بمزيد من الحقوق الإنسانية التي سرعان ما تغيّرت بتغيّر الحال بعد نشر قصة حياتي المعنونة “أنا ريغوبرتا برتا منشو الكاذبة” عام 1983 التي ترجمت سريعا إلى عشرة لغات مختلفة، حينها فقط أصبح العالم يلاحظ وجودنا على الأقل…..”.
الموت والشهداء
“… كنت على استعداد كبير للتضحية بكل شيء في سبيل إحقاق العمل والمساواة لأبناء جيلي من الهنود الذين يعانون الأمرّين في غواتيمالا، وأخذت أرسل خطاباتي إلى هناك وأقول فيها: لقد قدر للبعض أن يُضحّوا بدمائهم وقدّر للبعض الآخر أن يُضحوا بقوتهم، لذا دعونا نضحي بقوتنا ودمنا طالما لا نزال قادرين على ذلك، يتوجب علينا في حالتنا هاته أن نحمي حياتنا البائسة القصيرة بقدر ما نستطيع لكي تتحول إلى قوة جديدة نمنحها لشعبنا، فنحن وإن كنا لسنا بحاجة إلى مزيد من الموت والشهداء إلا أننا نحتاج اليوم لتكريس حياتنا للكفاح، يجب على الجميع العمل في المدينة والقرية دون أن يستبعد حمل السلاح متى تطلّب الأمر ذلك، على كل منا أن يُسهم بطريقته الخاصة ومساهمته التي تخدم الهدف نفسه، يجب ألا تمنعنا المخاطر المحيقة بحياتنا عن أهدافنا، فهذه المخاطر لم تَحل دون القدوم إليكم مرارا وتكرارا رغم منفاي للمشاركة في الحوار الوطني الذي دعت إليه لجنة المصالحة الوطنية (1988) والذي اعتقلت على إثرها قبل أن أعود وأتمتع بالحرية بفضلكم وبفضل نضالكم الذي يشكل قوة ضغط على السلطة الحاكمة لتحقيق مآربنا وأهدافنا، يجب على الجميع التحلي بالشجاعة والصبر والعزيمة حتى نيل كافة حقوقنا وحقوقكم المشروعة لبني البشر..”.
حبات الذرة وجائزة نوبل
هكذا عاشت ريغوبرتا منشو وترعرعت وسط حقول الذرة وأشجار البُنْ ووسط معاناتها ومعاناة شعبها في ظلّ إجراءات العبودية والتمييز للفقراء الهنود، لكنها بدأت مسيرتها التي رسمها والدها قبل قتله من طرف السلطات الإسبانية بعد دعواته الصريحة بكفالة حقوق الإنسان في البلاد ورفع الميز العنصري والجور والمعاناة عن العمال الفقراء حتى وصلت بمسيرتها تلك إلى النرويج ونالت جائزة نوبل للسلام عام 1992 وهي تحمل في يدها حبّات الذرة التي شكلت لها الحياة لسنوات طويلة إشادة بالجهود التي بذلتها لتحقيق العدالة الاجتماعية والمصالحة الحضارية بين الأعراق المختلفة على قاعدة احترام حقوق السكان الأصليين في تكريم اعتبرته تكريما للمنسيين الذين عليهم العيش عند نهاية العالم.. وتكريما للسكان الأصليين والنساء والأشخاص الذين علّموا أنفسهم بأنفسهم من دون أن يحظوا بفرصة الذهاب إلى المدارس وكسرت بذلك حاجز الصمت الذي تخطى لسنوات طويلة الجرائم الجماعية والكبت النفسي والمعنوي لسكان غواتيمالا، وتتوجّه حينها بكلماتها الأخيرة المؤثرة لقومها وتقول “… سوف يتعيّن علينا أن نستقبل العام 1993 الذي أعلنته الأمم المُتحدة عاما للسكان الأصليين الدولي بإحداث التغييرات وعلينا المساهمة في تحقيق ذلك بالمشاركة والمناقشة وبجهودنا الذاتية الخاصة وليس بجهود الأغنياء الذين يملكون الكثير من المال دون أن يُعيروننا انتباههم.. لكنهم لا يعلمون بأننا وإن فقدنا امتلاك المال، فنحن نمتلك الشجاعة والوعي والكثير من الأشياء التي لا يعرفونها هم وأطفالهم، إننا نملك حلما عظيما ألا وهو المستقبل.. لا تنسوا أبدا أن الوحدة هي أهم جوانب الحياة وأهم جوانب نضالنا المشترك، فليس بالأمر الهام انتمائنا إلى منظمات مختلفة أو خوضنا تجارب مختلفة أو تلقينا تنشئة اجتماعية مختلفة أو كون أعمارنا مختلفة، وليس بالأمر الهام استخدامنا لطرائق مختلفة للتعبير لأن كل أشكال التعبير هذه هي جزء من حبة، جزء من غرسة ذرة، وكلنا حبوب في كوز ذرة…، وإذا ما فقدت حبّة واحدة فلن نبقى مكتملين، يجب علينا أن نحارب سويا للاندماج في كوز الذرة هذا وأعدكم بأنني سأستمر في القتال حتى تكون الكلمة الأخيرة لنا وليس للمجرمين…، إننا نحمل في عقولنا مطالب البشرية جمعاء إذ نكافح من أجل الوجود المشترك المُسالم والحفاظ على حقوقنا وبيتنا ووطننا… إن نضالنا ودماءنا تطّهر المستقبل وتصوغه، ولا شك في أن هذه العملية ستكون طويلة ومعقدة لكننا لا نعيش في المدينة الفاضلة، فنحن الهنود لدينا ثقة كبيرة بإمكانية تحقيقها وتحقيق كل مطالبنا وكل ما نربو إليه….”.
< سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة