التحولات الاقتصادية في المغرب الكبير وفق عزيز بلال

في رحاب فكر عزيز بلال التنمية… ما لا تقوله الأرقام!

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟
في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم الأستاذ عزيز بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر أصلا باللغة الفرنسية، وترجمه للغة العربية الأستاذ نور الدين سعودي، وراجعه الأستاذ محمد شيكر، وقام بالتنسيق الأستاذ أحمد أوبلة.

نواصل في هذه الحلقة قراءتنا في كتاب “التنمية والعوامل غير الاقتصادية” للمفكر الاقتصادي عزيز بلال، حيث نستعرض جانبا آخر من تحليله العميق حول البنيات الاقتصادية للمغرب الكبير في الحقبة الاستعمارية.
يركز بلال في هذا الجزء من الفصل الثالث على التحولات التي أحدثها الاستعمار في البنية الاقتصادية، والاختلالات العميقة التي خلفها، والتي شكلت عائقا أمام تحقيق تنمية متوازنة بعد الاستقلال.
يرى عزيز بلال أن الاستعمار الفرنسي أحدث تغييرات جوهرية في البنية الاقتصادية للمغرب الكبير، مما أدى إلى طفرة ديمغرافية ملحوظة، حيث تضاعف عدد السكان خلال الثلاثين سنة الأخيرة من الاستعمار ليصل إلى 28 مليون نسمة سنة 1964.
وأدى ذلك وفق عزيز بلال إلى تحضر متسارع، حيث تجمع ما بين ربع وثلث السكان في المراكز الحضرية الكبرى مع نهاية الحقبة الاستعمارية، مؤكدا أن هذا النمو لم يكن مترافقا مع تطور متكافئ للإنتاج، إذ تراوحت نسبة نموه بين 2 و3.5% سنويا، باستثناء المغرب الذي شهد ارتفاعا نسبيا بين 1948 و1953 بلغ حوالي 6%.

التحولات في القطاع الزراعي والصناعي

وفي تحليله للتغيرات التي طرأت على القطاع الزراعي، يوضح بلال أن الاستعمار أحدث ثورة في الأساليب الزراعية، لكنها كانت متمركزة بشكل شبه حصري في أراضي المعمرين، التي بلغت مساحتها 4.4 مليون هكتار موزعة بين الجزائر (2.7 مليون هكتار)، المغرب (مليون هكتار) وتونس (700 ألف هكتار).
ورغم ذلك، ظل تطور الزراعة بطيئا، بمعدل نمو يتراوح بين 1 و2.5% سنويا، مما أدى إلى تزايد التفاوت بين الزراعة الاستعمارية المتطورة والزراعة الأهلية التي تفاقم إفقارها.
في المقابل، يؤكد بلال أن القطاع الصناعي، بما في ذلك الصناعات الاستخراجية والبناء، حقق معدلات نمو أسرع، حيث بلغت 3% في الجزائر وتونس، و6% في المغرب، مما جعل المنطقة منتجا رئيسيا للفوسفاط والمعادن والنفط، خصوصا في الجزائر.
لكن عزيز بلال يلفت الانتباه إلى أن هذا التطور لم يكن متوازنا، إذ أدى إلى تراجع كبير في الصناعة التقليدية التي كانت تلعب دورا محوريا في الاقتصاد المغاربي.

الاختلالات في القطاع الثالث والتجارة الخارجية

ويرى بلال أن التحولات التي شهدها القطاع الثالث تعكس نمو النشاط التجاري، وتزايد أعداد الأوروبيين في المنطقة، فضلا عن توسع الإدارة الاستعمارية، حيث ارتفعت نسبة نفقات التسيير الإداري من 11% في بداية الاستعمار إلى 15% سنة 1955، مما أدى إلى أزمة مالية عمومية جعلت المنطقة تعتمد على المساعدات الخارجية منذ 1947.
يلاحظ عزيز بلال أن بنية النفقات الإدارية لم تكن في صالح التنمية، حيث استحوذت المصاريف العامة والشرطة والنفقات العسكرية على أكثر من 50% من الميزانية.
أما في ما يتعلق بالتجارة الخارجية، يوضح بلال أن الصادرات شهدت في البداية نموا متسارعا، لكنها بدأت تتباطأ منذ 1930، باستثناء المغرب الذي استمر في التصدير بوتيرة مرتفعة حتى نهاية الاستعمار، في المقابل، تسارعت الواردات بفعل تدفق الرساميل والاستثمارات في البنية التحتية، مما أدى إلى تفاقم العجز التجاري.

الأزمات والنتائج التنموية المحدودة

ويؤكد بلال أن أبرز اختلالات الاقتصاد المغاربي خلال الحقبة الاستعمارية تمثلت في ثلاثة جوانب رئيسية: أزمة المالية العمومية والخارجية التي تم تجاوزها جزئيا بمساعدات من فرنسا، والإفقار الواسع للجماهير القروية والحضرية، وأخيرا، غياب استثمارات كافية في القطاعات الاستراتيجية مثل الصناعات القاعدية والتحديث الزراعي.
ويرى بلال أن سلب الأراضي من الفلاحين المغاربة وتركيزها في أيدي المعمرين أدى إلى أزمة اجتماعية خطيرة، حيث أجبر الفلاحون على العمل في أراض أقل خصوبة أو التحول إلى عمال زراعيين لدى المستعمرين.
ويشير المفكر عزيز بلال، إلى أن محاولات تحديث الزراعة الأهلية عبر القروض العمومية كانت محدودة التأثير، مما أدى إلى استمرار الفقر وسط الجماهير القروية، إذ أنه بحلول نهاية الاستعمار، كان 60% من العائلات القروية تعيش في فقر مدقع، بمتوسط دخل سنوي لا يتجاوز 70 ألف فرنك قديم.
التبعية الاقتصادية والثقافية

وعلاوة على هذه المشاكل، يرى بلال أن ضعف الاستثمار في الصناعات القاعدية أدى إلى غياب أقطاب النمو التي كان يمكن أن تشكل رافعة حقيقية للاقتصاد، كما أن الاستثمار في التعليم والثقافة كان محدودا، حيث اعتمد التعليم على اللغة الفرنسية بدل اللغة الوطنية، وأهمل تدريس التراث الثقافي المحلي، مما أدى إلى قطيعة معرفية حالت دون تحقيق تنمية ثقافية متكاملة.
ويشدد بلال على أن هذه العوامل، إلى جانب الاستيراد المكثف للكفاءات الأجنبية لإدارة الاقتصاد والإدارة، عمقت من حالة التبعية الاقتصادية والثقافية.
بهذا، يبرز عزيز بلال كيف أن النمو الذي شهده المغرب الكبير تحت الاستعمار لم يكن سوى ظاهريًا، حيث عمقت الخيارات الاستعمارية من التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، وأنتجت اقتصادا هشا لم يكن قادرا على تحقيق تنمية حقيقية بعد الاستقلال.
في الحلقة المقبلة، سنواصل استعراض فكر بلال حول الاندماج الاقتصادي في المتروبولات وما أداه من تغييرات جذرية في الاقتصادات المغاربية، مما عزز التبعية الاقتصادية والسياسية لهذه الدول.

  إعداد: عبد الصمد ادنيدن

Top