تأملات سينمائية -الحلقة 8

الفيلم الوثائقي الفلسطيني “لا أرض أخرى”
أنا الأرض، والأرض أنت
تحيل “الأرض” على العديد من الدلالات والمعاني الثقافية، والدينية، والأسطورية. فالأرض رمز للحياة، والخصوبة، والاستقرار. إنها الأم التي ترعى، وتغذي، وتحمي. وهي الهوية، والجذور، والانتماء، والمقدس، والوجود.
“لا أرض أخرى” يمكن أن تعوض أرضي، ولا أرض أخرى يمكن أن تصير موطني، رغم “التخريب”، “والهدم”، و”الترهيب”، و”التخويف”، و”القتل”، “والتهجير”، هكذا لسان حال الفلسطينيين الذين يتشبثون بـ”الأرض” رغم تتالي الاعتداءات من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
ويصور باسل عدرا وحمدان بلال من فلسطين، والثنائي يوفال أبراهام وراحيل تسور من إسرائيل، معاناة الشعب الفلسطيني مع العنف، والتضييق، والتهجير، من خلال فيلم “لا أرض أخرى” (NO OTHER LAND) الذي يوثق ليوميات ساكنة بلدة “مسافر يطا” بالضفة الغربية، التي تعاني الحصار والتضييق لدفعها للرحيل قسرا.
بيد أن كل الأساليب اللإنسانية التي يستخدمها جيش الاحتلال، لاستنزاف جهد الفلسطينيين ووضعهم أمام قرار “الاستسلام”، إلا أن ساكنة “مسافر يطا” تتمسك بالبقاء في الأرض، ولو اضطرها الوضع إلى العيش في الكهوف، بعد هدم البيوت، والمدارس، واقتلاع أعمدة الكهرباء، وردم الآبار.
ويصور العمل الوثائقي “لا أرض أخرى” طيلة 95 دقيقة، الهجوم المتكرر للجيش الإسرائيلي على أسر “مسافر يطا”، التي تعتبرها إسرائيل تهديدا لـ”وجودها”، ليس لأنها تمتلك “الأسلحة”، بل لأن بحوزتها “الحقيقية”، حقيقة أن هذه الأرض هي للفلسطينيين، حيث اهتدى باسل عدرا إلى إدراج مجموعة من الصور والفيديوهات التي تحتفظ بها خزانة العائلة، توثق لنضال والده إلى جانب ساكنة القرية ضد سلطات الاحتلال.

والتقطت آلات تصوير المخرجين الأربعة، بين سنة 2019 و2023، العديد من عمليات الهدم التي يشرف عليها الجيش الإسرائيلي باسم تنفيذ “قرار المحكمة”، ذلك أنه رغم الاحتجاجات القوية للأطفال والشباب والنساء والشيوخ، على “قرار المحكمة الوهمي”!، إلا أنه تتم الإطاحة بكل البيوت، لطمس معالم الهوية الفلسطينية، فـ”البيوت” مستودع الذاكرة، والحميمية، وأثر الإنسان الفلسطيني.
وظلت ترفض السلطات، طيلة الأربع سنوات، التقاط كاميرا الشباب الأربعة المناهضين للاحتلال، أي صورة لعملياتها الميدانية لاسيما أثناء تدمير البنية التحتية المتواضعة جدا لبلدة “مسافر يطا”، إلى جانب المداهمات الليلية التي تستهدف المناضلين الفلسطينيين الذين يصدحون ضد الاعتداءات.
واختار المخرجون أن تكون معالجتهم للقضية الفلسطينية من الزاوية الإنسانية، أي الانتصار للمبادئ الكونية، خصوصا أن العمل مشترك بين شباب ينتمون إلى فلسطين وإسرائيل، وهكذا لم يخض في التفاصيل السياسية التي تحضر رغم كل ذلك بشكل ضمني.

لقد كان باسل عدرا يناضل لوحده في البداية ضد البطش الإسرائيلي، قبل أن يتعرف لاحقا على الصحافي الإسرائيلي يوفال أبراهام، الذي يناهض انتهاكات سلطات “بلده” في حق الفلسطينيين، ذلك أنه لم يتردد في الوقوف أمام الجنود الذين كانوا يتطاولون على أراضي الساكنة، بحجة أن “مسافر يطا” باتت فضاء للتدريبات العسكرية.
واستنادا إلى التحريات التي قام بها مخرجو الفيلم، اتضح أن الجيش الإسرائيلي كان يروج لهذه السردية المزيفة لتخويف الفلسطينيين والتضييق على حريتهم في الاستقرار إلى الأبد، وجعلهم دائمي التفكير في “الرحيل”.
وصور “لا أرض أخرى” (إنتاج سنة 2024) جمع الكثير من الأسر لأغراضها ومغادرة “مسافر يطا” نحو المدينة، للتكدس جماعة في فضاء مغلق، فالسكن في البلدات والقرى يقوي علاقة الإنسان بالأرض، إنها الأصل حيث الجذور مثبتة في التراب، لهذا سيعمد الجيش إلى طمر الآبار التي تسقى بمياهها الأشجار والنباتات، كفعل يجبر الفلسطيني على إحداث القطعية مع ذاكرة الأرض ويرغمه على “الهجرة قسرا”.
وحاول منتجو “لا أرض أخرى”، أن يتميز هذا العمل الوثائقي، عن باقي الأعمال الأخرى التي سبق أن عالجت القضية الفلسطينية، بإدراج صوت يوفال أبراهام، الإسرائيلي الذي يدعم البطل باسل عدرا، وكل الفلسطينيين المؤمنين بعدالة القضية.
وتعرض الصحافي يوفال أبراهام، اثر هذا التضامن الإنساني مع ساكنة “مسافر يطا”، إلى مضايقات من طرف المدنيين الإسرائيليين وعناصر جيش الاحتلال، كرد فعل اتجاه تحركاته الميدانية ومنشوراته التي تفضح عنصرية السلطات الإسرائيلية.
ويعد “لا أرض أخرى” وثيقة بصرية أخرى، تضاف إلى سلسلة الوثائق المكتوبة والمصورة التي تؤرخ لتجبر واستقواء إسرائيل على المدنيين الفلسطينيين باحتكار العنف والسلاح.
ورغم انتقاد بعض الأصوات من داخل فلسطين لهذا العمل، بدعوى أنه يعالج القضية الفلسطينية بنظارة الإسرائيلي المستوطن يوفال أبراهام، إلى جانب ادعاء إغفاله لمجموعة من المعطيات بشأن القضية الفلسطينية، إلا أنه يبقى عملا يعرف بالأزمة التي تعيشها ساكنة “مسافر يطا” وكل الفلسطينيين المهددين كل يوم بـ”التهجير”، و”السجن”، و”القتل”.
ويعد فيلم “لا أرض أخرى” نداء من أجل استعادة الفلسطينيين لحريتهم، وكرامتهم، وهويتهم، التي تستلب تدريجيا منهم بطردهم من أراضيهم وعدم السماح لهم بالبناء أو الزراعة، ناهيك عن عزلهم عن المناطق التي بجوارهم، من خلال حجز سياراتهم والحد من تحركاتهم بسدود أمنية في كل الاتجاهات. 

ويبرز هذا الفيلم الوثائقي، أنه إذا كانت إسرائيل تتبنى القوة في مواجهة المدنيين بالبلدات والقرى، فإن الفلسطينيين يتخذون من المقاومة السلمية سلاحهم ضد الزحف على الأراضي المسجلة في اسم أجدادهم وآبائهم منذ القدم.
وحصل فيلم “لا أرض أخرى” بفعل طبيعة الموضوع وزاوية المعالجة، على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل، سنة 2025، وذلك خلال حفل توزيع الجوائز في الدورة 97 في لوس أنجلوس، ما جعل دولة الاحتلال الإسرائيلي تنتقد هذا التتويج وتهاجم أصحابه، ذلك أن وزير الثقافة الإسرائيلي ميكي زوهار اعتبره: “لحظة حزينة لعالم السينما، لأن العمل يردد الروايات التي تشوه صورة إسرائيل في العالم”.
وواجه هذا الفيلم الوثائقي مجموعة من الصعوبات في عرضه بالعديد من الدول على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه رغم ذلك حظي بشعبية من قبل الجماهير التي تشاهد عرضه بحماس في المهرجانات الدولية، الشيء الذي جعله يحصد العديد من الجوائز، كجائزة الجمهور لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وجائزة الجمهور في مهرجان كوبنهاجن الدولي للأفلام الوثائقية، ومهرجان رؤى الواقع الدولي للأفلام الوثائقية في سويسرا، ومهرجان MDAG في بولندا، ومهرجان فانكوفر الدولي للأفلام، ومهرجان بوسان السينمائي الدولي.
إعداد: يوسف الخيدر
Top