لم يعرف المشرع المغربي التجريح ضمن النصوص القانونية المنظمة له، بل ترك هذا الامر للاجتهاد الفقهي، وفي هذا الإطار، عرفه بعض الفقه بأنه «إمكانية أعطاها المشرع للأطراف لتجريح القاضي المشكوك في حياده للنظر في القضية المعروضة عليه، من أجل الحيلولة بينه وبين النظر فيها». وعرفه البعض الآخر بأنه طلب منع القاضي من النظر في النزاع، كلما قام سبب يدعو إلى الشك في قضائه من شأنه ان يؤدي إلى ميل أو تحيز». في حين عرفه بعض الفقه الفرنسي بأنه إجراء يجيز للخصم استبعاد القاضي من النظر في الدعوى المعروضة عليه، نظرا لخطر تحيزه.
وتجد قاعدة التجريح أساسها القانوني في قانوني المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية اللذين ينظمان مسطرة التقاضي أمام القضاء المدني والقضاء الزجري، أما في المجال التأديبي المتعلق بمسطرة تأديب الموظفين العموميين وأصحاب المهن المنظمة قانونا، فإنه لم يقع التنصيص عليها مطلقا ، وهو ما خلق نقاشا قانونيا داخل أوساط الفقه والقضاء حول إعمال هذه القاعدة أمام المجالس التأديبية، نقاش أسفر عن شبه إجماع على ضرورة إعمالها وتطبيقها في الميدان التأديبي، باعتبارها ضمانة أساسية للمتابع تضمن محاكمة عادلة له، وهذا ما أقرته محكمة النقض الفرنسية في قرار صادر بتاريخ 27/12/1960 جاء فيه « إن مقتضيات المادة 385 من قانون المسطرة المدنية تطبق أمام المجالس التأديبية خصوصا في الحالة التي يكون العلم بها مسبقا «. وأقرته أيضا المحكمة الإدارية بالدار البيضاء في أحد قراراتها بتاريخ 20/06/2001 تحت عدد 363 ، والذي جاء فيه « إنه من مقومات المحاكمة التأديبية ضرورة توفر عنصر الحياد في الجهاز التأديبي حتى يمكن الاطمئنان لقراره، فحضور المسؤول الذي حرر التقرير التأديبي في مواجهة الموظف، وكذا أحد الشهود على المخالفة الإدارية بصفتهم أعضاء في المجلس التأديبي يشكل مسا بعنصر الحياد يستوجب إلغاء القرار بسبب مخالفة القواعد العامة للمحاكمات «.بيد أنه إذا كان الامر واضحا بالنسبة للمجالس التأديبية الخاصة بالموظفين العموميين وأصحاب بعض المهن المنظمة قانونا، فإن الأمر مختلف تماما بالنسبة للمجلس الأعلى للقضاء التي يختص بتدبير الوضعية المهنية للقضاة ، ذلك أنه اعتبارا للنظام القانوني الخاص لهذا المجلس والذي حدد الدستور طبيعته و تشكيلته واختصاصاته ، واعتبارا لكون جلالة الملك هو رئيس هذا المجلس بحكم ان القضاء هو من وظائف إمارة المؤمنين، و نظرا للطابع الدستوري لهذه المؤسسة، فإن قاعدة التجريح لا تجد مجالا لتطبيقها أمام هذه المؤسسة الدستورية، ذلك أنه استنادا للمقتضيات القانونية المنظمة للتجريح سواء في قانون المسطرة المدنية ( الفصل 295 ) أو في قانون المسطرة الجنائية ( الفصل 273 )، فإن التجريح يقتصر الدفع به في مواجهة الجهة التي خولها القانون محاكمة المعني بالأمر، والمحاكمة بمفهومها القانوني تعني مثول الشخص المتابع امام هيئة مشكلة تشكيلا قانونيا سليما حيث تقوم هذه الاخيرة بالاستماع إليه حول المخالفات المنسوبة إليه وتعرض عليه نتائج الأبحاث والتحريات المنجزة من طرف الجهات المختصة ، ثم بعد ذلك تختلي هذه الهيئة للمداولة لتصدر المقرر التأديبي الفاصل في الموضوع إما بالإدانة والعقاب والبراءة .
و بالعودة إلى المقتضيات القانونية المنظمة للمجلس الاعلى للقضاء سواء تلك المنصوص عليها في الدستور او في النظام الأساسي لرجال القضاء يتبين أن المجلس الاعلى للقضاء لا يرفع لجلالة الملك إلا مقترحات تهم الوضعية الفردية للقضاة سواء في الجانب المتعلق بالنقل او التأديب ، وإذا ما تمت الموافقة على تلك المقترحات ، يصدر الامر بتنفيذها بمقتضى ظهير شريف ، و هذا ما نص عليه الفصل 60 من النظام الأساسي لرجال القضاء الذي جاء فيه « تصدر العقوبات بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء، بقرار لوزير العدل بالنسبة لعقوبات الدرجة الاولى ، وبظهير بالنسبة لعقوبات الدرجة الثانية « .
وهو ما يعني أن الدفع بالتجريح في مواجهة أي عضو من اعضاء المجلس الأعلى للقضاء امر غير ممكن ، على اعتبار ان هؤلاء لا يحاكمون القاضي ولا يصدرون أي عقوبة في مواجهته ، بل ان عملهم يقتصر على الاستماع إليه ومواجهته بنتائج الابحاث والتحريات المنجزة ضده ، ثم رفع الامر إلى جلالة الملك مشفوعا باقتراح في الموضوع ، وبالتالي فإن عمل المجلس الأعلى للقضاء في المجال التأديبي لا يصل إلى درجة إجراء محاكمة للقاضي بالمفهوم القانوني لهذه الكلمة بل هو مجرد جهة اقتراحية فقط ، وانسجاما مع هذا الرأي، أصدر مجلس الدولة الفرنسي قرارا بتاريخ 18/10/2000 جاء فيه : إن المجلس الاعلى للقضاء لا يعد محكمة بمفهوم قانون المسطرة المدنية ، ولا تطبق أمامه قواعد هذا القانون، كما أصدر المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي قرارا بتاريخ 20/07/1994 أوضح فيه انه اعتبارا للطابع الفريد لهذا المجلس لكونه هو الوحيد المخول له تدبير الوضعية المهنية للقضاة والمحددة اختصاصاته وتركيبته بنص الدستور، واعتبارا لكون أعضاء هذا المجلس محددون على سبيل الحصر، و أن طريقة تعيينهم تضمن حيادهم و تجردهم و نزاهتهم لانهم يمثلون مؤسسة دستورية سامية ، فإن قاعدة التجريح لا يمكن الدفع بها في مواجهة أي عضو من أعضاء المجلس الاعلى للقضاء «
والحديث عن تجريح أحد اعضاء المجلس الأعلى للقضاء يجرنا للحديث عن صفة وزير العدل في هذا المجلس ومدى إمكانية تجريحه، وفي هذا الصدد، يجذر التذكير أن وزير العدل في النظام السياسي و الدستوري للمملكة يحظى بصفتين اثنتين : أولهما صفته كعضو في الحكومة ومشرف على قطاع العدل ، وعمله في هذا المجال يخضع للرقابة من طرف البرلمان باعتباره ينفذ سياسة حكومية ، وثانيهما صفته كنائب عن جلالة الملك في المجلس الاعلى للقضاء ، وهنا يتعين التأكيد على ان كل صفة مستقلة تماما عن الصفة الاخرى سواء من الناحية الدستورية اومن الناحية الوظيفية ، وهو ما يعني ان وزير العدل أثناء ترأسه لأشغال المجلس الاعلى للقضاء لا يستمد صفته من كونه عضوا في الحكومة وينتمي لحزب سياسي معين، بل يستمدها من كونه نائبا عن جلالة الملك ، ومن هذا المنطلق، فإن الحديث عن إمكانية ادعاء محاباة وزير العدل لطرف سياسي معين أثناء ترأسه لأشغال المجلس الاعلى للقضاء هو امر يفتقد إلى المنطق القانوني والاساس الدستوري، لان هذا المجلس و بحكم تركيبته واختصاصاته ونظامه القانوني هو مستقل تماما عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ، كما ان المكانة الاعتبارية لوزارة العدل في هيكل الدولة وطبيعة اختصاصاتها تفرض اختيار شخصية متميزة على رأس هذه الوزارة مشهود لها بالنزاهة والتجرد والحياد والحرص على تطبيق القانون والدفاع عن استقلال القضاء والمبادئ السامية للقانون ، وقد عودنا جلالة الملك دائما على وضع الشخص المناسب الذي تتوفر فيه كل هذه الصفات في هذا المنصب الحساس .
وفي نفس السياق ، قد يثور التساؤل حول مدى إمكانية تجريح الجهة التي باشرت الأبحاث والتحريات في حق القاضي الذي تنسب إليه مخالفات مهنية ، والمقصود بذلك المقرر الذي يعينه وزير العدل في إطار الفصل 61 من القانون الأساسي لرجال القضاء ، وفي هذا الصدد ، وكما سبق بيانه اعلاه ، فإنه قياسا على مقتضيات قانوني المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية الذين يعتبران أساس قاعدة التجريح في النظام القانوني المغربي ، فإن التجريح يقتصر الدفع به في مواجهة الجهة التي تحاكم المعني بالأمر ، و بمفهوم المخالفة فإن الجهة المكلفة بالبحث والتحري في الافعال موضوع المخالفة لا تواجه بالتجريح، لأن مهمتها تقتصر على إنجاز الابحاث والاستماع للمعني بالأمر وجمع مختلف وسائل الإثبات التي يرجع تقديرها إلى نظر الجهة التي تصدر العقوبة ، والمقرر بهذا المفهوم لا يملك أي سلطة في الملف التأديبي فهو لا يملك حق المتابعة ولا يملك حق حفظ الملف ، بل وظيفته تنحصر فقط في الاستماع للمعني بالأمر والتثبت من ارتكابه للأفعال المنسوبة إليه ورفع تقرير في الموضوع إلى المجلس الأعلى للقضاء ، وهذا هو المبدأ الذي اكده مجلس الدولة الفرنسي في عدة قرارات متواترة ومنها القرار الصادر بتاريخ 03/12/1999 و 07/06/2000.
وغني عن البيان في هذا المقام، أن الممارسة العملية في المغرب أثبتت أن كل المقررين الذين تم تعيينهم في الملفات التأديبية التي عرضت على انظار المجلس الأعلى للقضاء كانوا ممن يشهد لهم بالنزاهة والاستقلالية والحياد والتجرد والحرص الشديد على تطبيق القانون.
و خلاصة القول أن قاعدة التجريح، و إن كانت ضمانة أساسية في مسطرة المحاكمة، فإنه حينما يتعلق الامر بالمجلس الاعلى للقضاء الذي يعد مؤسسة دستورية مرتبطة بالمؤسسة الملكية ، وعملها مرتبط بالمجال الوظيفي لجلالة الملك ، فإنه لا يمكن تطبيق هذه القاعدة ضد أي عضو من أعضاء هذه المؤسسة ، لان هذه الأخيرة وبحكم طبيعتها و تركيبتها واختصاصاتها تشكل في حد ذاتها أقوى ضمانة للاستقلالية والتجرد والحياد ، كما أن ترؤس جلالة الملك لهذه المؤسسة ومصادقته على المقترحات التي ترفع إلى نظره السديد ، وصدور الأمر بتنفيذها بمقتضى ظهير شريف ، هو ضمانة أخرى للحياد والتجرد و النزاهة في عمل هذه المؤسسة.
بقلم: الاستاذ شكير الفتوح*
*قاضي بالمحكمة الابتدائية
بمدينة سوق أربعاء الغرب،
وعضو الودادية الحسنية للقضاة