أبراج النجوم أو السلم السماوي.. تحفة معمارية تربط الأرض بالسماء في قلب الصحراء

معالم وآثار من عمق المغرب

يزخر المغرب بتراث غني يعكس تعاقب الحضارات على أرضه، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. مآثره المتنوعة ومعالمه الفريدة تحكي قصص أمجاد وتاريخ حافل شكل ملامح مغرب اليوم.
في هذه الزاوية الرمضانية، تأخذكم بيان اليوم في رحلة عبر الزمن، نستكشف فيها معالم بارزة ومآثر متميزة، ليس فقط بجمالها وتفردها، بل أيضًا بما تحمله من دلالات تاريخية وثقافية. في كل حلقة، نسلط الضوء على جزء من الموروث المغربي الأصيل، بين عمران يعكس عبقرية البناء، وتقاليد تصوغ هوية الوطن، وصفحات من التاريخ صنعت أمجاد هذا البلد العريق.

بين كلميمة وأرفود، وسط هضبة المرحة في المغرب، يقع واحد من أكثر المعالم المعمارية إثارة للإعجاب في العالم، وهو السلم السماوي أو أبراج النجوم. حيث تعتبر هذه التحفة الفنية، بجانب اللولب الذهبي ومدينة أوريان، من بين أكبر المشاريع الفنية التي صممها الفنان الألماني هانسجورج فوث، الذي استلهم إبداعاته من السماء والعالم السماوي.
يطلق السكان المحليون على هذه الأعمال اسم “الألماني” نسبة إلى فوث الذي بنى هذه المنحوتات المدهشة بين عامي 1980 و2003، ليقدم للجميع مشاهد لا مثيل لها في قلب الصحراء.
كان هانسجورج فوث يملك شغفًا كبيرًا بعالم الفلك والفن المعماري. وعندما وصل إلى منطقة هضبة المرحة في المغرب، قرر تحويل هذه الصحراء القاحلة إلى مكان يجمع بين الفن والطبيعة بطريقة فريدة. وفي تعاون وثيق مع الحرفيين المحليين، بدأ بناء مجموعة من المنحوتات التي تمثل كل منها جزءًا من الكون السماوي. على مدار أكثر من 20 عامًا، استمر فوث في بناء أعماله التي تُعد تجسيدًا لرؤيته الفنية الرائعة.
أول الأعمال التي بدأ بها فوث هو “السلم السماوي” الذي تم بناؤه بين عامي 1980 و1987. هذا العمل هو عبارة عن درج عملاق بارتفاع 16 مترًا، على شكل مثلث، يتكون من 56 درجة تضيق تدريجيًا حتى تلتقي عند قمة مدهشة.
تم تصميم السلم ليس فقط كعنصر معماري، بل كمرصد للظواهر السماوية، حيث يمكن للزوار متابعة حركة النجوم والكواكب، مما يخلق تجربة روحانية فريدة. ويُعتبر السلم السماوي أول خطوة في رحلة فوث لتقديم عمله الفني الأضخم والأكثر رمزية.
بين عامي 1992 و1997، شرع فوث في مشروعه الثاني “اللولب الذهبي”. هذا العمل المدهش يتبع مبدأ الرقم الذهبي “فاي”، وهو منحدر حجري يصل طوله إلى 260 مترًا، يبدأ من الأرض ويصل إلى ارتفاع 6 أمتار. لكن ما يميز هذا العمل حقًا هو التصميم الحلزوني الفريد الذي يضم 100 درجة تؤدي إلى قلب اللولب، حيث يوجد بئر يتوسطه.
عند النظر إلى اللولب من السماء، يظهر التصميم في شكل “صدفة نوتيلوس”، رمز الكمال الهندسي. ويعتبر اللولب الذهبي تمثيلًا حقيقيًا لربط الأرض بالعالم السماوي، فهو يخلق تجربة بصرية وروحية مثيرة تجمع بين جمال التصميم وروحانية المكان.
أخيرًا، أكمل فوث مشروعه المدهش بـ “مدينة أوريان”، التي تم تصميمها بين عامي 1998 و2003. حيث تمثل هذه المدينة بمبانيها المستطيلة المصنوعة من الطوب اللبن “النجوم السبعة الأكثر وضوحًا” في كوكبة المشرق، وهو إسقاط مصغر للكوكبة على الأرض. كل برج من الأبراج في المكان يتطابق مع حجم ودرجة سطوع النجوم في السماء، مما يجعل المدينة بمثابة مرصد فني يمكن من خلاله تتبع مسار النجوم ومواقعها في السماء. إحدى الأبراج هناك يحتوي على سلالم تؤدي إلى بئر، مما يضيف بعدًا رمزيًا آخر لهذا العمل الفني.
وتعتبر أعمال فوث في الصحراء بمثابة تحقيق لحلمه بربط الأرض بالسماء. كانت إلهاماته مستوحاة من “فن الأرض” الذي يركز على استخدام الطبيعة كعنصر أساسي في بناء الأعمال الفنية.
هذا المشروع لا يمثل فقط إبداعًا معماريا، بل هو أيضًا تجسيد للحب العميق الذي يكنه فوث للعالم السماوي وللتقاليد المعمارية المحلية. عمل فوث على تصميم كل مبنى بما يتماشى مع البيئة الصحراوية، مما جعل الأعمال متكاملة مع المحيط الطبيعي المحيط بها.
أدى فوث أيضًا إلى تكريم التقاليد المحلية في بناء هذه الأعمال، حيث استخدم “الطوب اللبن” كمادة بناء رئيسية، وهي واحدة من تقنيات البناء التقليدية في الجنوب الشرقي. وتم تشييد الأبراج والمنحوتات وفقًا للمبادئ المعمارية المحلية، مع مراعاة الاحتياجات البيئية والطقس الصحراوي. كما أن استخدام الآبار في بعض الأبراج يعكس ارتباط هذه الأعمال بالبقاء في بيئة قاسية، ويضيف بعدًا رمزيًا يدل على الاتصال العميق بين البشر والطبيعة.
رغم أن هذه الأعمال الفنية تمثل رؤية فنية لا مثيل لها، إلا أن الوصول إليها ليس بالأمر السهل. فهي تقع في منطقة نائية نواحي مدينة الراشيدية، مما يجعل الوصول إليها تحديًا حقيقيًا حتى للزوار المحليين. لكن هذا التحدي يجعل من زيارة هذه الأعمال تجربة مدهشة، فهي تقع في قلب الطبيعة البكر، بعيدًا عن صخب الحياة اليومية.
أعمال هانسجورج فوث بين كلميمة وأرفود هي شهادة حية على قوة الفن في تشكيل الروح والجمال. فقد استطاع هذا الفنان الألماني أن يخلق في الصحراء تحفًا معمارية لا تشبه أي شيء آخر، تجمع بين الهندسة والفلك والطبيعة في تناغم رائع.
ورغم صعوبة الوصول إلى هذه المنحوتات الضخمة، فإن زيارة هذا المكان تستحق كل جهد، إذ أن كل قطعة من هذه الأعمال تمثل رحلة إلى السماء وتمنح الزوار فرصة للتأمل في جمال الكون.

 إعداد: محمد توفيق أمزيان

Top