المقاهي …. حكاية أمكنة مألوفة يفرد لها زمن خاص

تعكس المقاهي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان المدينة كونها فضاء مشتركا للالتقاء والتواصل بين الناس. في مجتمعاتنا العربية، كانت المقاهي في الأصل مكانا للقاء الأصدقاء والمعارف خارج البيوت لما لهذه الأخيرة من خصوصية وحرمة، ثم تطور الأمر فأصبحت المقاهي مكانا، ليس فقط للتسلية والمسامرات بل للتحاور واتخاذ المواقف وحتى تشكيل الرأي العام. لقد باتت المقهى مكانا مألوفا يفرد له زمن خاص يضاهي مختلف الأزمنة الأخرى مثل العمل والمنزل. كان ارتياد المقاهى مباحا لكل طبقات الناس، ووجدت إلى جانب مقاهى العامة مقاه لفئات وطوائف ومهن معينة، فهناك مقاه لعلية القوم وأخرى لأصحاب البدل الأنيقة والموظفين، كما وجدت مقاه لأصحاب الحرف والمهن المختلفة كعمال البناء والحدادة والنجارة وغيرهم. لم تكن المقاهي تحظى باهتمام الدارسين والباحثين ولذلك بقيت ظاهرة مجهولة من طرف المؤرخين، لا سيما، العرب. فالظاهر أن ذلك يعود إلى النظرة الموروثة التي ترى الظاهرة على أنها ذات طبيعة هامشية. غير أنه في ما بعد حظيت باهتمام الباحثين في مجالي علم الاجتماع والانثروبولوجيا قبل أن تحظى باهتمام المختصين في ميادين أخرى من ذلك علم الاقتصاد والهندسة والمعمار.  بيان اليوم تقرب قراءها من بعض هذه الفضاءات التاريخية في مجموعة من الأقطار.

الحلقة السادسة

  • العصر الذهبي لمقاهي القاهرة
  • كانت تؤم كبار المفكرين وأعلام النهضة المصرية

لم يكمل الغيطاني وصفه لمقاهي القاهرة بشكل عام، بل خصص جزءا عن المقاهي في القرن التاسع عشر، نقلا عن المستشرق الإنجليزي، إدوارد وليم لين، في كتابه “المصريون المحدثون”، والذى يقول فيه :”إن القاهرة بها أكثر من ألف مقهى، والمقهى غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود، ويقوم على طول الواجهة، ما عدا المدخل مصطبة من الحجر أو الآجر، تفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثة وعرضها كذلك تقريبا، وفي داخل المقهى مقاعد متشابهة على جانبين أو ثلاثة، ويرتاد المقهى أفراد الطبقة السفلى والتجار، وتزدحم بهم عصرًا ومساءً، وهم يفضلون الجلوس على المصطبة الخارجية، ويحمل كل منهم شبكه الخاص وتبغه، فيما يقدم (القهوجي) القهوة بخمس فضة للفنجان الواحد، أو عشرة فضة للبكرج الصغير الذى يسع ثلاثة فناجين أو أربعة”.
ويضيف: “كما يحتفظ القهوجي بعدد من آلات التدخين من نرجيلة وشيشة وجوزة، وتستعمل هذه الأخيرة في تدخين التمباك والحشيش الذي يباع في بعض المقاهي، ويتردد الموسيقيون، والمحدثون على بعض المقاهي، تحديدًا في الأعياد الدينية الخاصة”.
وفي كتاب وصف مصر، الذي أعدته الحملة الفرنسية، جزء عن المقاهي في زمن الحملة، والذي يقول: “تضم مدينة القاهرة حوالي 1200 مقهى بخلاف مقاهى مصر القديمة وبولاق، حيث تضم مصر القديمة 50 مقهى أما بولاق، فيبلغ تعداد مقاهيها المائة، وليست لهذه المباني أية علاقة بالمباني التى تحمل نفس الاسم في فرنسا، إلا من حيثُ استهلاك البن، على الرغم من أن هذا المشروب يعد ويشرب بطريقة مختلفة”.
ويصف المقاهي نفسها قائلا: “هى مبان ليس لها أثاثات على الإطلاق ولا مرايا أو ديكورات داخلية، فقط (دكك) خشبية تُشكل نوعًا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبنى، وكذلك بعض الحصر من سعف النخيل، أو أبسطة خشنة الذوق في المقاهي الأكثر فخامة بالإضافة إلى بنك خشبي عادي بالغ البساطة”.
ففى بداية تاريخ المقاهي، كانت تستخدم فيها الدكك الخشبية العريضة، ولايزال مقهى الفيشاوي القديم، وبعض مقاهي القاهرة الفاطمية تحتفظ بدكك خشبية عريضة، تتسع الواحدة منها لجلوس خمسة أو ستة أشخاص متجاورين، ولاتزال إحدى الدكك الخشبية في مقهى الفيشاوي تحمل تاريخ صناعتها في سنة 1910، أي بداية هذا القرن.
وفى مقاهي القاهرة، كان هُناك عدة أدوات أهمها، الرف الذي يحمل عددا من آلات التدخين، كما نقول عليها “شيشة”، والتى كانت تتكون فيما مضى من قالب نحاسي يحمل الحجر المصنوع من الفخار، ويوضع فوقه الدخان، وفوقه جمرات الفحم، وتتصل أنبوبة التدخين بقلب الآلة، ويوضع في مقدمته فم من الكهرمان، وغالبًا كان يتم شراؤها من دكاكين التحف القديمة، والتي لاتزال موجودة داخل خان الخليلي الآن، حيث تخصصت في أدوات المقاهي ولوازمها.
ومن أهم المشروبات في المقاهي الآن، الشاي، وهو مشروب حديث لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر، وأثناء الجلوس بأي مقهى قاهري، تصل إلى الأسماع نداءات يطلقها الجرسون، مناديًا العامل الذى يقف وراء المنصة، يبلغه بطلبات الزبائن، ولكل مشروب اسم معين، والشاي لهُ أكثر من اسم، “البنور” أي شاي عادي في كوب زجاجي، “ميزة” مخلوط باللبن، “بوستة” غير مخلوط بالسكر.
أما القهوة، فتقسم وفقا لتصنيفات الصبيّ “سادة، مظبوط، وزيادة”، كما تسمى القرفة “فانيليا”، والنرجيلة التي تحمل دخانا مخلوطا بالعسل “المعسل”.
كيف كانت المقاهي قبل انتشار المذياع؟ سؤال هام أيضا، أجاب عليه جمال الغيطاني داخل صفحات الكتاب، فقبل انتشار المذياع والراديو في مصر، كانت المقاهي أماكن مخصصة لرواية قصص السير الشعبية والملاحم، وكان أصحاب المقاهي يستقدمون رواة القصص، وبعضهم يُعرف باسم “الهلالية”، لتخصصهم في سيرة أبوزيد الهلالى، والبعض الآخر باسم “الظاهرية”.
ويمكننا القول إن العصر الذهبي لمقاهى القاهرة كان في النصف الأول من هذا القرن، خاصة في العشرينيات، والثلاثينيات، حيثُ كانت القاهرة الجميلة، الهادئة آنذاك، تذخر بالعديد من المقاهى، منها مقهى نوبار، والذي توجد مكانه الآن مقهى المالية، وكان مُلتقى الفنانين، فكان عبده الحامولى يقضى أمسياته فيه، ومعه بعض أصحابه.
وفى ميدان الأوبرا، كان يوجد مقهى “السنترال”، وموضعه الآن جزء من ملهى صفية حلمى في ميدان الأوبرا، وهذا الملهى يضم أيضا مقهى من طابقين إلى الآن، ويُعرف باسم كازينو الأوبرا، وكانت تعقد به ندوات أدبية لنجيب محفوظ كل جمعة، أما مقهى “متاتيا”، فمكانه العتبة الخضراء، وكان يؤمه جمال الدين الأفغاني.
وعلى مقربة من الموسكى، قهوة “القزاز”، ومكانها الآن بعض المباني القائمة عند الجانب الأيمن من الشارع بالقرب من العتبة، وعامة زبائنها من أهل الريف، الذين يجلسون فيها ويتأملون النساء القاهريات المحجبات بالبراقع البيضاء والسوداء.

اعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

*

*

Top